عبد القادر الشاوي يكتب: التأويل المقاصدي للرِدَّة - Marayana - مرايانا
×
×

عبد القادر الشاوي يكتب: التأويل المقاصدي للرِدَّة

من الظاهر أن تأويل الردة، على هذا الأساس، يتضمن إقامة الحد على المرتد، فضلا عن أن التأويل هذا مَبْنِيّ على المصادرة القبلية لكل تفكير عقلي قد يرتضي الدين، أي دين، عقيدةً وقد لا يرتضيه. لا مجال للتفكير في منطق الحرية، لأنَّ المُطلق قَيْدٌ معنوي يَتَزَكّى بكثير من الأفعال المادية (القتل أو غيره) النابعة من الضرورة أو الاقتضاء.

رغم أن يهوذا الأسخريوطي، حسب الأناجيل (القانونية)، هو التلميذ الذي خان يسوع وسلمه لليهود مقابل تلاثين قطعة فضة، إلا أنه أيضا هو الذي يفسر بطريقة دوغمائية في (رسائل) العهد الجديد كيف يمكن التعرف على الردّة وكيف يمكن تشجيع حواريي المسيح على مكافحتها، والصراع ضد جميع التعاليم الخاطئة بطريقة جدية إلى أن يتم القضاء عليها. الهدف المقصود، كما نعلم، هو الهرطقة الموصوفة بكونها الإتيان بالبدع المخالفة للدين.

لا أرى أن يهوذا الأسخريوطي كان متناقضا في هذا أو (خائنا) لمسيحه متآمرا عليه أو راغبا في فتنة دينية أو تغيير قيمي، وإنما كان، حسب تقديري، متدينا صارما في يقينه التام بأن الخروج عن التعاليم المسيحية فيه تقويض لها؛ ولا يمكن أن يكون التقويض هذا إلا في صالح عقائد أخرى.

في جوهر الأشياء، كما نرى، صراع أديان وترسيخ عقائد وتأويلات وبناء منظومات من القيم النابعة منها. ويكون الهدف المحمول على تصورات (شوفينية طَارِدَة لاَفِظَة) هو الدفاع عن الدين والحيلولة (المنع من الشيء في التصور الفقهي) التامة ضد الردة التي كان لها في المسيحية حدّا يوجب القتل على المرتد؛ لأن الخروج عن الدين، انطلاقا من التأويل الديني نفسه، يعتبر سقوطا ملعونا في حمأة منظومة من الاعتقادات، مهما كانت طبيعتها، خارج الدين. فتكون الردة في التفسير الكاثوليكي جرما (أكبر من الجريمة) لا يقام له الحكم ويُنفَّذ بدون أي استئناف.

الفقيه المسلم لم يشذ عن هذه القاعدة، إن كانت قاعدةً بالفعل ولا أراها إلا وعيا مغلوطا بالقاعدة وتوكيدا للاستثناء الذي يكرسه التفكير المطلق في الموضوع الديني. وما ذلك إلا لأن حكم الردة في الإسلام لا يختلف بأي حال من الأحوال عنه في المسيحية القديمة، لأن حكمه القتل (بإجماع المسلمين وجمهور العلماء من المذاهب الأربعة). مع الفارق الذي يمكن إجماله في أن التطورات التاريخية التي طرأت على (التفكير الكاثوليكي) بأبعاده الثقافية العامة، في علاقة  بالعقل (ما كان منه مرتبطا بـ”الحتمية” أو بـ”الشك”)، أو بسبب النزعات الدينية الإصلاحية المختلفة التي غيرت، في حدود معينة، من مفهوم الاعتقاد الكنسي، وربما أفلحت في استنبات نزعات إلحادية إلخ… أوْجَدَت في التفكير المسيحي ظاهرة يعتبرها المتزمتون خروجا عن الإيمان وطعنا في الدين: ظاهرة الرجوع الطوعي عن الإيمان بالدين نفسه. وفي التجربة المسيحية الكندية تحديدا طريقة مثلى وخاصة تضمن للمؤمن، إن أراد، حقه في التراجع عن التعميد لأنه لم يكن في مستوى إدراكه أو فهمه فما بالك أن يكون له إيمانا كنسيا بالحقيقة الدينية المطلقة التي تستوجب التسليم والخضوع…

الردة في اللغة العربية تعني الرجوع عن الشيء، ولا تجد للرجوع حصريّا أي معنى آخر سواء أكان عقليا (عن طريق التفكير أو اللاتفكير)، أو عاطفيا (عن طريق الحب أو الكراهية) أو سلوكيا (عن طريق الخطأ أو الصواب). الشاهد عندنا، في “الرجوع عن الشيء” هو ما يقابله، في الشرع الديني، البقاء قيد المجال الروحي الذي يتحدد بالألوهية والتوحيد والفرائض وغير ذلك، مما يجب على المؤمن المسلم الإيمان به واتباعه في الدنيا منجاة له من عذاب الآخرة. فكيف لا تكون الردة في التأويل المقاصدي، والحالة هذه، عقوبة الشيء، عقوبة (الرجوع عن) وفي العقوبة القتل، الناتج عن تغيير الاعتقاد أو الخروج عليه أو الارتداد عنه طوعا أو كرها؟ لأنه، عندما يُبْنَى تأويل الردة على أساس (الخروج)، يُبْنَى الحكم المقرر لذلك بالمقابل وجوبا على ما يمكن تسميته بـ(الدخول) في عقيدة أخرى مخالفة.

يطمئن الفقيه السني المالكي إلى الإيمان لا لأنه اختيار بل هداية. وعندما يكون على اطمئنانه التام بأن الله هو العليم بالصدور، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر إنّا اعْتَدْنا للظالمين نارا أحاط بهم سُرادِقُها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمُهل يَشْوِي الوجوه بئسَ الشرابُ وساءت مُرْتَفَقا) (الكهف 29)، فإنه، مع ذلك، يقرر مع باقي الفقهاء الآخرين من جميع المذاهب قرارا تأويلا نهائيا يصبح معه الخروج عن الهداية (الدين الإسلامي أخر الأديان) جريمة، وما ذلك إلا لأن الردة (في تأويله) موقف يخرق العهد ويرتد ضد الاعتقاد وينفي ما في أحكامهما من فرائض وقيم وتصورات وسلوكات.

من الظاهر أن تأويل الردة، على هذا الأساس، يتضمن إقامة الحد على المرتد، فضلا عن أن التأويل هذا مَبْنِيّ على المصادرة القبلية لكل تفكير عقلي قد يرتضي الدين، أي دين، عقيدةً وقد لا يرتضيه. لا مجال للتفكير في منطق الحرية، لأنَّ المُطلق قَيْدٌ معنوي يَتَزَكّى بكثير من الأفعال المادية (القتل أو غيره) النابعة من الضرورة أو الاقتضاء.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *