بين الأسطورة والعلم: كيف كانت بداية البشرية في الواقع؟ 4/3
كل شعوب العالم تملك أسطورة أولى لنشوئها، لتفسر، كل على حدة، من أين جاءت. لكن العلم يذهب في اتجاه آخر تماما، إذ يقترح تصوره لبداية البشرية. ما الفرق؟ ذاك ما نتعرف عليه في هذا الجزء.
بعد الجزء الأول الذي أوضحنا فيه كيف غير العلم من إدراك الإنسان للواقع، والجزء الثاني الذي رأينا فيه تصور العلم وكذا الأسطورة لواقع بداية الكون، نتابع الملف في هذا الجزء الثالث، مع تصور العلم لواقع بداية البشرية.
نشير قبل ذلك، مرة أخرى، إلى أن المعلومات العلمية الواردة في هذا الملف، نعتمد فيها على كتاب عالم الأحياء البريطاني، ريتشارد دوكينز، “سحر الواقع”.
بداية البشرية… أسطوريا
كل شعوب العالم تملك أسطورة أولى لنشوئها، لتفسر، كل على حدة، من أين جاءت. وكل قبيلة لا تعتد بأسطورة قبيلة أخرى، ولا تقيم لها أي اعتبار.
كيف جاء الإنسان الأول إلى العالم إذن؟ تقول أسطورة من تاسمانيا[1] إن إلها اسمه “مويني” صارع إلها منافسا له في السماء اسمه “درومردينر”، ففاز الأخير ونزل الأول إلى الأرض حيث مات.
اقرأ أيضا: حسين الوادعي: نوبل للكيمياء ونظرية التطور
لكن مويني قبل موته، أراد أن يمنح بركاته للموضع الذي يرقد فيه، فقرر خلق البشر. ولأنه كان متعجلا، فالموت يداهمه، خلقهم دون ركب إنما بذيول كبيرة مثل الكنغر، حتى إنهم لم يستطيعوا الجلوس وكرهوا الحياة، فأخذوا يستجدون السماء أن تساعدهم.
نجد الميثولوجيا الدينية في الديانات الإبراهيمية مثلا، تقدم قصة لبداية البشرية هي أيضا، وهي قصة آدم وحواء وهبوطهما إلى الأرض، التي ترد بذات الملامح تقريبا لكن بنسخة مختلفة في كل ديانة على حدة.
سمع درومردينر بكاءهم بينما هو فرح في السماء بانتصاره، فأخذته الشفقة بهم، فقرر أن يمنحهم ركبا قابلة للثني ثم قطع ذيولهم غير المناسبة، فعاشوا في سعادة بعدها.
بالمناسبة، يمكننا أن نلاقي الأسطورة نفسها بنسخ مختلفة، لأن الناس يبدلون مع الوقت في التفاصيل، لذلك نجدها تنحرف عن النسخة الأصلية للقصة.
لننتقل الآن إلى الشعوب الإسكندينافية القديمة… هؤلاء، مثلهم مثل اليونانيين والرومان، كان لهم عدد كبير من الآلهة، لكن إلههم الرئيس يدعى “أودين”.
ذات يوم ، كان أودين يتمشى على شاطئ البحر رفقة إخوته، وكانوا آلهة أيضا، حتى وصلوا إلى شجرتين؛ فتحول جذع الشجرة الأولى إلى رجل، وجذع الثانية إلى امرأة.
أطلقوا على الرجل اسم “آسك” والمرأة اسم “إمبلا”، ثم بث فيهما الآلهة الإخوة الحياةَ والوعي ومنحوهما وجهين والقدرة على الكلام.
اقرأ أيضا: عن التزامن: حين يُعجز الإنسانُ العلمَ! 2/2
حسنا، تبدو هذه القصص اليوم كقصص الأطفال، لكن هذه الشعوب فعلا اعتقدت بها، وتجد كل منها، في أسطورتها، جوابا لسؤال “كيف بدأت البشرية؟”.
على الجانب الآخر، نجد الميثولوجيا الدينية في الديانات الإبراهيمية مثلا، تقدم قصة لبداية البشرية هي أيضا، وهي قصة آدم وحواء وهبوطهما إلى الأرض، التي ترد بذات الملامح تقريبا لكن بنسخة مختلفة في كل ديانة على حدة.
بداية البشرية في الواقع… علميا
يذهب العلم في اتجاه آخر تماما، فهو يقول إنه لم يكن هناك إنسان أول؛ ذلك أن كل إنسان يلزمه أبوان، وهؤلاء لا بد أن يكونوا من بني الإنسان أيضا.
أي كائن يولد ينتمي إلى نفس نوع أبويه -مع استثناءات نادرة-. كل كائن مولود كان ينتمي إذن إلى نفس نوع أجداده، وأجداده الأقدم فالأقدم ثم الأقدم، وهكذا دواليك.
إذا وضعت صورتك، وصورة أبيك وصورة جدك وصورة أبيه وصورة جده وهكذا، ستحتاج إلى 185 مليون صورة، وإذا وضعت بعضها على بعض، ستشكل برجا يبلغ ارتفاعه نحو 67 كلم.
مع ذلك، إذا كان الأمر بهذه البساطة في النمذجة، ففي الواقع هو أعقد من ذلك بكثير وإن كان ليس عصيا على الفهم، إذا ما عرفنا أن الصورة الأولى من الجهة الأخرى، لن تحتوي على إنسان مثلك!
اقرأ أيضا: نظرية التطور مجددا: فِيَلة بلا أنياب… الطبيعة الأم تقاوم عبث الإنسان
كيف ذلك؟ تماما كما تنتقل من الصبا إلى الشيخوخة دون أن تشعر بذلك على نحو يومي! الأمر برمته يقوم على التغير المتدرج، خطوة صغيرة فخطوة صغيرة، حتى يحدث ذلك التغيير الكبير.
حقيقة الواقع وفق العلم أننا نشترك في سلف واحد مع كل الأنواع الأخرى للحيوانات والنباتات على هذه الكوكب… بل وثمة بعض الجينات المشتركة بين جميع المخلوقات، وأكثر من ذلك، الشفرة الجينية هي الشفرة نفسها بين جميع الكائنات الحية.
هكذا، إذا عدنا إلى 10 آلاف سنة مضت، لن نلاحظ اختلافا كبيرا في “الصور” مع اليوم، عدا اختلافات ظاهرية من حيث الملبس والشعر وما إلى ذلك. لكن، إذا عدنا إلى ما قبل 100 ألف سنة، سنلمس فرقا طفيفا يتجسد في زيادة بسيطة في حجم الجمجمة.
أما إذا عدنا إلى مليون سنة مضت، فهنا سنلاحظ اختلافا كافيا مع أجدادنا في تلك الفترة، وهم الذين يُطلق عليهم “الإنسان المنتصب” (Homo erectus)… بالمناسبة، نحن ندعى “الإنسان العاقل” (Homo sapiens).
مرة أخرى، كل هذا تم بالتدريج، ولم يحدث أبدا في أي وقت من الأوقات، وفق ما توصل إليه العلم، أن أنجب الإنسان العاقل من الإنسان المنتصب على نحو مفاجئ.
حينئذ، يصبح السؤال عمن يكون الإنسان الأول، ومتى عاش، بلا إجابة دقيقة… تماما كالإجابة عن سؤال متى توقفت عن كونك طفلا لتصبح صبيا.
اقرأ أيضا: من أين جئنا؟ وما هو مصيرنا؟ نظرية التطور، الانفجار الكبير، الخلق…؟
وكما رأينا في الجزء الأول، الحفريات في الغالب هي ما يساعد العلماء على الوصول إلى حقائق عن أسلافنا البعيدين.
فلنعد الآن إلى ما قبل 6 ملايين سنة. سنكون بإفريقيا، وسنعثر على أجداد يشبهون الشامبانزي، لكنهم ليسوا كذلك، بل أسلاف مشتركين لنا وللشمبانزي.
نعود في التاريخ، نعود ونعود، وبين كل فترة زمنية جد طويلة وأخرى، نجد تطورا ما… حتى نصل إلى جدنا الأكبر رقم 185 مليون الذي ذكرناه قبل قليل، وسيكون ذلك قبل 417 مليون سنة.
جدنا هذا، حسبما توصل إليه العلم: سمكة!
يمكن بالتأكيد التوغل أكثر في الماضي لنلاقي المزيد، لكن العلماء يدخلون في حالة من عدم اليقين؛ لأن هذه الأزمنة قديمة للغاية، وحينها، يجبرون على ترك الحفريات.
حقيقة الواقع وفق العلم إذن، أننا نشترك في سلف واحد مع كل الأنواع الأخرى للحيوانات والنباتات على هذه الكوكب… بل وثمة بعض الجينات المشتركة بين جميع المخلوقات، وأكثر من ذلك، الشفرة الجينية هي الشفرة نفسها بين جميع الكائنات الحية.
في الجزء الرابع: لماذا تحدث لنا الأشياء السيئة في الواقع؟
[1] جزيرة تجانب أستراليا.
لقراءة الجزء الأول: بين الأسطورة والعلم: الحواس خادعة… كيف غير العلم من إدراك الإنسان للواقع؟ 4/1
لقراءة الجزء الثاني: بين الأسطورة والعلم: كيف كانت بداية الكون في الواقع؟ 4/2
لقراءة الجزء الرابع: بين الأسطورة والعلم… لماذا تحدث لنا الأشياء السيئة في الواقع؟ 4/4