قديما في الدول الإسلامية: البيمارستان… مستشفىً وصيدليةٌ ومعهدٌ لتدريس الطب بنظام عملٍ صارم! 2\3
إذا كان البيمارستان، في أول ظهوره في صدر الإسلام، قد جاء نتيجة لظروف الحروب وحاجة الناس التي لا تنتهي إليه، كما رأينا في الجزء الأول، فإنه بذلك كان نسخة أولية …
إذا كان البيمارستان، في أول ظهوره في صدر الإسلام، قد جاء نتيجة لظروف الحروب وحاجة الناس التي لا تنتهي إليه، كما رأينا في الجزء الأول، فإنه بذلك كان نسخة أولية قابلة للتطوير، نظرا لبعض الأخطاء التي كان يرتكبها بعض المتطببين، فتودي بحياة المرضى.
هكذا، وفي صيرورة تنظيم طويلة، صار البيمارستان مستشفى وصيدلية ومعهدا لتدريس الطب… بل ولمزاولة التطبيب، بات لزاما على المرء أن يجاز فيه، كما وصار للبيمارستانات محتسبون يقفون على حسن سيرها.
في هذا الجزء الثاني، إذن، نتعرف على نظام عمل البيمارستانات.
تقنين امتهان الطب
في أول عهد المجتمعات الإسلامية، كان كافيا ليزاول الشخص الطب أن يدرسه على يد أحد النابهين فيه بعصره، حتى إذا لمس بعد ذلك في نفسه القدرة على مزاولته، زاوله دون قيد أو شرط.
نجد في كل بيمارستان، صيدلية، كانت تسمى “شراب خاناه”، (خاناه كلمة فارسية تعني البيت)، يقوم عليها “مهتار” (تعني بالفارسية: رئيس).
استمر الحال هكذا إلى العصر العباسي. أول من نظّم التطبيب وقيده بنظام خاص، حرصا على مصلحة الناس، كان الخليفة العباسي المقتدر بالله، الذي تولى الخلافة عام 290 للهجرة.
المقتدر بالله فرض على من يريد مزاولة التطبيب إجراء امتحان للحصول على إجازة تخوله هذا الحق بين الناس. ولهذا التقنين سبب بالتأكيد، فقد وصل يوما ما إلى الخليفة أن رجلا مات بسبب خطأ قام به أحد المتطببين.
اقرأ أيضا: إدمان التكنولوجيا الرقمية: صناعة تستعبدنا ولها مخاطر أم أن المخاطر مجرد ادعاء؟
قال أحد أبرز أطباء عصره، سنان بن ثابت: “لما كان عام 319 للهجرة… أمر الخليفة، المحتسبَ أبا ابراهيم بن أبي بطيحة، بمنع سائر المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت…”.
امتحن حين ذاك سنان أكثر من 800 رجل من بغداد، وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه، عدا من اشتهر بالتقدم في الطب ومن كان طبيبا للسلطان.
نفس الأمر ووجه به الصيادلة أيضا.
نظام البيمارستان
لم يكن نظام عمل البيمارستانات عشوائيا، يسير كيفما اتفق… كانت خلاف ذلك، على نظام تام وترتيب صارم، تسير أعمالها وفق وتيرة منتظمة، كما جاء في كتاب المؤرخ المصري أحمد عيسى بك، “تاريخ البيمارستانات في الإسلام”، الذي أشرنا إليه في الجزء الأول من هذا الملف.
وينقسم البيمارستان إلى قسمين منفصلين، واحد للذكور والثاني للإناث. كل قسم منهما مجهز بما يحتاجه، من آلة وعدة وخدم وغيره.
في كل قسم منهما أيضا عدة قاعات، فقاعة للأمراض الباطنية وأخرى للجراحة وغيرهما كثير. كانت هذه القاعات، وفق “طبقات الأطباء لابن أبي صبيعة”، فسيحة، حسنة البناء، بل ويجري فيها الماء.
اقرأ أيضا: على هامش اعتقال مثلي مراكش، مرايانا تناقش المثلية الجنسية كموضوع للتفكير: مرض أو جريمة؟! 2/1
نجد في كل بيمارستان، صيدلية، كانت تسمى “شراب خاناه”، (خاناه كلمة فارسية تعني البيت)، يقوم عليها “مهتار” (تعني بالفارسية: رئيس).
كان طلبة الطب يتلقون الدروس على أيدي أساتذتهم في البيمارستان، فيما كان بعض من كبار الأطباء وكبار رؤسائهم، يجعلون لهم مجلسا عاما لتدريس الطب، يقدمونه في منازلهم الخاصة أو مدارس خاصة.
بشكل عام، كان للبيمارستان، ناظر يشرف على إدارته (وقد كانت وظيفة عظيمة حينذاك)، وأسفله رؤساء؛ للأطباء رئيسهم، وللجراحين رئيسهم، وهكذا.
من الوظائف الطبية، التي كان لها شأن كبير حينذاك، الطبيب الخاص… الخاص بالخليفة، وخواصه وأقاربه ومرضى القصر عموما.
وللأطباء أجرة من لدن الخلفاء والملوك والأمراء، تسمى بـ”الجامكية” (لفظ فارسي معرب يعني الراتب)؛ فلطبيب السلطان خمسون دينارا في الشهر، ولمن دونه من أطباء معاونين، عشرة دنانير. هؤلاء كان بإمكانهم أيضا الاشتغال احتسابا في البيمارستان.
أما أطباء البيمارستان، فقد كان لهم جامكية قدرها 15 دينارا، كما أن هذه الأجرة قد تتضاعف إلى غاية أربع مرات، حسب ما يؤدونه من أعمال. هذا الراتب كان حينذاك كبيرا، وقد بلغ بالأطباء من حسن الحال ورغد العيش، منزلة عظيمة.
نظام المعالجة بالبيمارستان
في البيمارستان طريقتان للعلاج، خارجي وداخلي. الخارجي منه أن يتناول المريض الدواء وينصرف لتعاطيه في منزله، فيما الداخلي يعني أن يقيم المريض في البيمارستان في قسم خاص حتى يشفى. وقد كان الأطباء يشتغلون بالنوبة لحسن سير ذلك.
اقرأ أيضا: وسط غياب دراسات مفسرة… ظاهرة الانتحار في المغرب تتفاقم في صمت!
تدريس الطب بالبيمارستان
كان طلبة الطب يتلقون الدروس على أيدي أساتذتهم في البيمارستان، حيث كانت تهيأ لهم الإيوانات الخاصة المعدة والمجهزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيجلسون بين يدي معلميهم بعد أن يتفقد هؤلاء المرضى وينتهوا من علاجهم.
بعض من كبار الأطباء وكبار رؤسائهم، كانوا يجعلون لهم مجلسا عاما لتدريس الطب، يقدمونه في منازلهم الخاصة أو مدارس خاصة.
الحسبة على الأطباء والصيادلة
كانت الحسبة في الإسلام آنذاك تقوم محل التفتيش والرقابة أيامنا هذه، وقد انسحبت على الأطباء والصيادلة أيضا؛ فلعبت دورا مهما في تقويم ما كان زائغا في البيمارستانات.
جاء في مخطوط الشيرازي، “نهاية الرتبة في طلب الحسبة”، في ما يتعلق بالأطباء وصناعتهم، أنه “ينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد أبقراط الذي أخذه على سائر الأطباء، ويحلفهم أن لا يعطوا أحدا دواءً مرا، ولا يركبوا له سما، ولا يصنعوا السمائم عند أحد من العامة، ولا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنة، ولا للرجل الدواء الذي يقطع النسل، وليغضوا من أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، ولا يفشوا الأسرار ولا يهتكوا الأستار”.
اقرأ أيضا: على هامش قضية “راقي بركان”: ملف “الرقية الشرعية” في مرمى الجدل مرة أخرى..
من الوظائف الطبية، التي كان لها شأن كبير حينذاك، الطبيب الخاص… الخاص بالخليفة، وخواصه وأقاربه ومرضى القصر عموما.
أما في ما يخص الصيدلة، فقد كتب الشيرازي أن “تدليس هذا الباب كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام فرحم الله من نظر فيه، وعرف استخراج غشوشه فكتبها في حواشيه تقربا إلى الله تعالى؛ فهي أضر على الخلق من غيرها لأن العقاقير والأشربة مختلفة الطبائع والأمزجة، والتداوي على قدر أمزجتها… فالواجب عليهم أن يراقبوا الله في ذلك وينبغي للمحتسب أن يخوفهم ويعظهم وينذرهم بالعقوبة…”.
في الجزء الثالث، نتعرف إلى بعض من أشهر البيمارستانات التي كانت في المغرب.
لقراءة الجزء الأول: البيمارَسْتانات… مستشفيات العرب في صدر الإسلام! 1\3
لقراءة الجزء الثالث: هذه بعض من أهم البيمارستانات التي عرفها المغرب يوما ما… 3/3