محمد عبد الوهاب رفيقي: من تجارب الإصلاح الديني بالمغرب: أبو علي الحسن اليوسي
تضمنت كتاباته عددا من اجتهاداته وفتاويه في ما كان في عصره من نوازل ومستجدات، مؤصلا لاختياراته بما يراه مناسبا لها من أدلة، غير مبال بمخالفة من سبقه أو عاصره، نابذا مناهج التقليد والجمود التي سادت وقته وزمنه، مشاركا في الشأن العام وإصلاحه وتغييره، جامعا بين فقه الشريعة وتصوف المسلك، حتى لقب بغزالي عصره
من المهم جدا ونحن بصدد الحديث عن الإصلاح الديني ببلادنا وضرورته وشروطه وأدواته، العودة للتاريخ والتوقف عند كل المحاولات السابقة، إذ أن هذه الدعوة ليست لقيطة ولا حديثة الولادة، بل كانت هما عند عدد من المصلحين، وهدفا عند كثير من الحركات والتيارات.
كلما ساءت الأوضاع واجتازت المجتمعات الإسلامية أزمة حضارية، إلا وصدعت بعض الأصوات مطالبة بالإصلاح والتغيير، سواء على مستوى التنظير أو الممارسة.
صحيح أن هذه الحركات والأصوات لم تفلح غالبا في مساعيها، ولم تحقق مرادها ومأمولها، بدليل أننا لا زلنا نعيش إلى اليوم كل تلك الأزمات والنكسات، وأسباب هذا الفشل مما لابد من أن نخوض فيه لاحقا.
لكن معرفة هذه التجارب والوقوف عندها واستلهام العبر منها، أمر مهم لبناء تجارب اليوم، فهو تراكم التاريخ وصيرورته، وهي المحرك والباعث على استكمال المسيرة وإعادة المحاولة، كما أنها هي دروس الأمس التي لا بد من فهمها واستيعابها حتى لا تتكرر الأخطاء، وتستنسخ الهفوات، وصولا إلى المطلوب، وتحقيقا للمرغوب.
1- التجربة الإصلاحية عند الحسن اليوسي:
لا يمكن معرفة أثر أي تجربة إصلاحية إلا بالنظر إلى سياقاتها التاريخية، والمناخ السائد حولها، وما كان يعترضها من عوائق وإكراهات. من هنا يمكن اعتبار تجربة أبي الحسن اليوسي رائدة في وقتها، جريئة في سياقها، خارجة عن المألوف في زمانها، مما يجعل من المهم التوقف عندها، لمعرفة من هو الحسن اليوسي؟ وما هي سياقات ظهوره ؟ وما هي معالم الإصلاح في فكره وإنتاجاته؟
هو أبو علي الحسن اليوسي الذي ولد عام 1630 وتوفي 1691، ابن قبيلة أيت يوسي الأمازيغية الصنهاجية شمال غرب الأطلس المتوسط، حفظ بها القرآن وتلقى بها مباديء المعارف الدينية، قبل أن ينتقل إلى دكالة ومراكش وسوس، لطلب العلم والترقي في مراتب الفقه والتعليم الديني. استقر بعدها بالزاوية الدلائية نواحي خنيفرة قرابة عشرين عاما متعلما ثم معلما، ليتحول إلى أبرز فقهاء المالكية في عصره، فضلا عن ملكته الأدبية، وهو ما أهله ليصنف ما يقارب أربعين كتابا، في مختلف العلوم والفنون.
تضمنت هذه الكتابات عددا من اجتهاداته وفتاويه في ما كان في عصره من نوازل ومستجدات، مؤصلا لاختياراته بما يراه مناسبا لها من أدلة، غير مبال بمخالفة من سبقه أو عاصره، نابذا مناهج التقليد والجمود التي سادت وقته وزمنه، مشاركا في الشأن العام وإصلاحه وتغييره، جامعا بين فقه الشريعة وتصوف المسلك، حتى لقب بغزالي عصره.
عرف المغرب زمن اليوسي تقلبات واضطرابات سياسية واجتماعية، إذ كانت الدولة السعدية الحاكمة تعيش آخر أيامها، والبلاد منقسمة بسبب انبعاث القوى الجديدة الطامحة للسلطة، حتى تقسم المغرب إلى سبع مغارب بتعبير ابن زيدان؛ فضلا عن موجات الاحتلال والغزو التي استغلت ضعف الدولة المركزية، فتوسع الأتراك في أجزاء من شرق المغرب، واحتلت إسبانيا سبتة وأصيلا والعرائش والمعمورة، واستحوذت انجلترا على طنجة، ودخل البرتغاليون الجديدة، وعمت الفوضى والفتن والخراب، وانتشرت الأوبئة، وظهر الغلاء، وانعدم الأمن والاستقرار.
كما أن الحسن اليوسي، الذي تعلم بالزاوية الدلائية وتربى في أحضانها، كان شاهدا على ما تعرضت له من دمار وخراب على يد المولى رشيد العلوي، بعد صراع سياسي وعسكري بين الطرفين (الزاوية من جهة والمولى رشيد من جهة أحرى). انتقل إلى فاس ودرس بجامعة القرويين، وكان السلطان يحضر دروسه ومحاضراته؛ ثم انتقل إلى مراكش وعاش بها فترة، قبل أن يعود إلى فاس زمن المولى إسماعيل. في هذه الفترة، ظهرت أراؤه الإصلاحية، وألف أعظم كتبه وأشهرها، وهو كتاب “المحاضرات” الذي لقي ثناء واسعا في زمانه وبعد وفاته.
قسمت فاطمة خليل القبلي، جامعة رسائل الحسن اليوسي، حياته إلى فترات ثلاث:
الفترة الأولى: وتشمل حياة الشيخ في صغره، ونشأته الدينية وسط أسرته، ومقامه بالبادية بكل قساوتها وكثرة ما يصيبها من الفتن والاضطرابات، وتأثير ذلك على تحديد ملامح شخصيته وتكوين مداركه وإغناء ثقافته وصقل أخلاقه وطباعه؛ كما تشمل هذه الفترة أيضا رحلاته المتعددة لمختلف المدن من أجل التعلم والتفقه.
الفترة الثانية: وفيها التحق بالزاوية الدلائية التي، وإن لم يكن من أبنائها، لكنه كان من أنبغ وأبرز تلاميذها وشيوخها، وبقي طول حياته قوي الصلة بها، وفيا لها، وقد كان فيها طالبا، ثم عاش بها أستاذا. بها ظهرت ملامح شخصيته كفقيه و شيخ مربي ومفكر مصلح.
الفترة الثالثة: وهي أبرز هذه المراحل، ففيها واجه فترات عصيبة وعاش أياما قاسية، سواء في علاقته بالسلاطين الذين كانوا يكنون العداوة للزاوية الدلائية، أو في علاقته بفقهاء عصره بحواضر المغرب وقتئذ فاس ومراكش. في هذه الفترة أيضا أنتج اليوسي غالب مؤلفاته وكتاباته ورسائله.
ليس من الغريب إذن أن يعتني الباحثون حتى من غير المسلمين بكتابات اليوسي وإنتاجاته، كما فعل السوسيولوجي جاك بيرك في كتابه : “الحسن اليوسي، مشكلات الثقافة المغربية في القرن السابع عشر”، والذي صدر بباريس أول مرة سنة 1958.
فما هي أهم الملامح الفكرية والإصلاحية في مشروع الحسن اليوسي؟ ذلك ما سنعرفه في المقال القادم.
مقالات قد تهمك:
- من اليمن، حسين الوادعي يكتب: لماذا نجح الإصلاح الديني اليهودي والمسيحي وفشل الإسلامي؟
- حسن الحو يكتب: الإيمان بين التسليم والتدليل… ماذا لو؟!
- أحمد إبن عرضون… الفقيه المالكي الذي أعاد للمرأة حقها!
- ابن حزم الظاهري… نصيرُ المرأة وفيلسُوف الحُب!
- فيديو. أبو القاسم الجنيد، منبع الصوفية في المغرب