نوال السعداوي في مواجهة الفكر الذكوري المتدين
…الذين ناصبوها العداء، وكرهوا طلتها وسخروا من شكلها واستقبحوا طبيعتها دون مساحيق، فعلوا ذلك بالوكالة عن جهات تجيد جيدا الشيطنة ضد كل من يخالفهم الرأي، وإلا فكم من واحد منهم قرأ لها وتفهم كتاباتها وجادلها بالفكرة مقابل الفكرة ؟؟
لا أحد تقريبا. فالذين قرؤوا لها واختلفوا مع طروحاتها أو مع بعضها، لم ينساقوا وراء التحريض والشيطنة، بل ناقشوها وردوا عليها بهدوء.
رحلت نوال السعداوي بعد صراع طويل مع الفكر الذكوري، ومع النظام الطبقي، ومع النظام الرأسمالي التجاري، ومع الفكر الديني المنغلق، ومع السلطتين السياسية والدينية.
يصعب أن تجد في مجتمع، محكوم ومعجون بكل تلك السلط، السماحة والفهم والتفهم لما كانت تكتبه امراة عربية، حكمت عليها الصدفة البيولوجية أن تولد وتنشأ وتتربى في مجتمع بدوي، يقوم على التراتبية الطبقية ما بين الباشوات والعبيد من الفلاحين، ما بين الذكر والأنثى، وهي التي تساءلت في سن الطفولة عن سر الأفضلية التي كان يتمتع بها أخوها، الذي وصفته أكثر من مرة بأنه لم يكن في مستوى ذكائها.
ذكاء نوال السعداوي قادها يوما، وهي طفلة، إلى أن تكتب رسالة احتجاج إلى الله تسأله لماذا كل هذا الظلم الذي يجعل ذكرا مثل أخيها يحظى بالاهتمام والتفضيل عليها؟ وانتظرت الجواب من السماء فلم يصلها كما صرحت.
درست وتعلمت وتفوقت في دراستها حتى أصبحت طبيبة. فكانت أول معركة قادتها ضد أعراف المجتمع المصري، هي تلك التي جاءت نقدا لختان الإناث الذي تعرضت له وهي صغيرة. وعندما ألفت ونشرت كتابها “المرأة والجنس”، أرغمت على الإستقالة من وزارة الصحة.
… حين تحررت من الوظيفة العمومية، أنشات عيادة بمنزلها، وعاشت دهرا تكتب وتكتب في شتى المواضيع التي تتصل بنقد الواقع العربي، المتناقض والمتعارض مع ما تطمح له من حرية تامة للمرأة وللرجل أيضا. لكن الرجال كان لهم رأي ٱخر حين وجدوها تشاكس من أجل أن تحتل المرأة في البلاد العربية، المكانة الاقتصادية والسياسية والعلمية التي تستحقها داخل نظام اجتماعي تصفه بالمختل وبالمنافق.
تجند للرد عليها رجالُ دين من الصنف المتزمت، الذين يعتاشون على التجارة بالدين، والذين يدافعون عن “الحوزة اللاهوتية” التي يحرسونها ليل نهار… حتى لا تنهار سلطتهم الدينية داخل المجتمع.
… بدل أن يناقشوا أفكارها ويردوا عليها عقلانيا، تارت حفيظتهم ضدها، فجاءت ردودهم عبارة عن فتاوى مضللة، تؤلب الرأي العام ضد كل فكر حداثي وكل فكر تقدمي… وكل فكر يسعى لهدم الأسس التي يقوم عليها الفكر الذكوري والفكر الديني.
تعرضت نوال السعداوي للشيطنة وللتكفير، ورفعت ضدها دعاوى لإخراجها من الملة، وتم سجنها، ومنعت من الصحافة داخل مصر، ولم تجد من سلاح لمواجهة كل هذا السيل الجارف من الهجوم المسعور عليها… سوى قلمها الذي لم تكسره الذكورية الشرسة والدوغمائية المغلقة والشيطنة الممنهجة ضد فكرها وكتاباتها.
المؤسف… أن الذين ناصبوها العداء، وكرهوا طلتها وسخروا من شكلها واستقبحوا طبيعتها دون مساحيق، قد فعلوا ذلك بالوكالة عن جهات تجيد جيدا الشيطنة ضد كل من يخالفهم الرأي، وإلا فكم من واحد منهم قرأ لها وتفهم كتاباتها وجادلها بالفكرة مقابل الفكرة ؟؟
لا أحد تقريبا. فالذين قرؤوا لها واختلفوا مع طروحاتها أو مع بعضها، لم ينساقوا وراء التحريض والشيطنة، بل ناقشوها وردوا عليها بهدوء.
هذه الجعجعة اليوم بدون طحين، تلك التي حطمت كل مبادىء الاحترام والتوقير لشخصها بعد وفاتها، وراحت تجلدها وهي ميتة، وكأنهم يبرهنون مرة أخرى عن إفلاسهم الفكري والأخلاقي، وتهافت عقلية القطيع التي ينزعون منها عند كل شيطنة مقيتة.
مؤسف الوضع الأخلاقي والفكري بهذه البلدان العربية، إنه يتجسد، بشكل يدعو إلى الهلع، عند كل محطة من محطات النهاية التي ما تركها العرف والدين منسابة، ورهينة في يد من يوزعون صكوك الغفران، وكأنهم يمتلكون مفاتيح الجنة والنار…
وكأنهم بما تصنع أيديهم من تفاهات، يريدون أن يبرهنوا خطأ، عن دفاع مندفع عن العقيدة وعن الدين، حتى لو تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء وتجردت أخلاقهم من فضيلة الترفع عن نهش لحم الجثة بعد أن انفصلت عن الروح، هذه الأخيرة التي لم ولن تموت… لأنها سكنت كل كتاب تركته نوال السعداوي ذرية حية من ورائها.