ما الذي استفاده العرب من انتشار الفتوة والصعلكة؟ 3/3
كان في تعاليم الإسلام، من وجهة نظر أحمد أمين، ما يشجع على الفتوة مثل إعطاء الفقير، ورفع الظلم عن المظلوم، والجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليه…
تابعنا في الجزء الثاني كيف أخذت الفتوة معانيّ أخرى بعد ظهور الإسلام… في هذا الجزء الثالث والأخير، نواصل عرضنا لكتاب المفكر المصري أحمد أمين، “الصعلكة والفتوة في الإسلام”، ونعرف لما خف شأن الصعلكة بعد ذلك، وما الذي استفاده العرب من الفتوة بمختلف معانيها.
رأينا في آخر الجزء الثاني أن معاني الفتوة في تاريخ العرب قد تمت في العصر العباسي… من بين هذه المعاني، الفتوة العسكرية، وقد كانت نحوا من الفروسية المنظمة.
هذا النوع من الفتوة اشتهر به الخليفة العباسي الناصر لدين الله… حتى إن أحد المؤرخين قال: “إنه شيد بنيانها (أي الخليفة)، ومهد أركانها، وألف أحزابها، وأرشد طلابها، وأظهر أنوارها وأوضح برهانها…”.
ما عادت الصعلكة نظاما ثابتا ومنتشرا. ثم لاحقا درّت “الفتوحات الإسلامية” بمكاسب أغنت الناس عن التصعلك، الذي ظهر بسبب الفقر والبؤس.
نقرأ أيضا في مصادر عدة من بينها “الكامل في التاريخ” و”نهاية الأرب” أن “الناصر لدين الله كان يميل إلى رمي البندق، والطيور المناسيب، ولبس سراويل الفتوة”.
كما جاء في “كشف الظنون” للمؤرخ العثماني كاتب جلبي أن “الاحتفال بدخول الشاب في سلك الفتيان على عهد الناصر لدين الله كان مصحوبا بشرب كأس الفتوة، كما أخذ الناصر جنده بالتدريب المتواصل على فنون الرياضة البدنية المختلفة”.
اقرأ أيضا: الشُّعوبية: حين أشعرَ العربُ “المواليَّ” بالميز العرقي الذي نهى عنه القرآن والرسول! 2/1
ويورد المؤرخ المصري ابن تغري بردي في تاريخه أيضا أن الخليفة هذا قد أرسل رسلا إلى بعضهم ومعهم “كأس الفتوة وسراويلها لكي ينتظموا في سلك فتيانه، وكأس الفتوة هذه ليست نبيذا ولا خمرا، وإنما هي ملح وماء”.
آنذاك ذهب انتشار هذه الفتوة حد انتشار ادعاء يقول إن لها سندا يتصل إلى علي بن أبي طالب. وأيا يكن، يظهر أن نظام الفتوة العسكرية كان شائعا في هذا العصر.
مما يدل على ذلك أن ابن تيمية انبرى كعادته بفتوى يحسم فيها إن كانت حلالا أم حراما، وإن كان لها أصل في الشريعة أم لا… وقد حرمها طبعا[1].
بالعودة إلى الصعلكة…
لم نتحدث عن الصعلكة في الجزء الثاني الذي خصصناه لما بعد ظهور الإسلام، وذلك لأن الصعلكة قد خف شأنها أثناءه. ويعزو أحمد أمين ذلك لسببين، اعتبرهما أساسيين من وجهة نظره:
أولهما أن الإسلام قد جاء بالزكاة والإحسان، ثم بتوزيع الميراث على الأقارب والأبناء… وثانيهما لوجود حكومة تأخذ بيدها على يدي الغاصب السالب والناهب. بل إن الإسلام نفسه قد سن عقوبة شديدة لقاطع الطريق بحسب ما جاء في القرآن:
يرى أحمد أمين أن الفتوة أضافت حسا فنيا للعرب على امتداد تاريخهم، فقد كانت للفتيان مجالس يلجأ إليها المغنون، يحيون أوقاتهم فيها بالغناء، كما ويجدون فيها مطعمهم ومشربهم.
“إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب أليم”[2].
نتيجة لذلك، ما عادت الصعلكة نظاما ثابتا ومنتشرا. ثم لاحقا درّت “الفتوحات الإسلامية” بمكاسب أغنت الناس عن التصعلك، الذي ظهر كما رأينا في الجزء الأول بسبب الفقر والبؤس.
اقرأ أيضا: المأمون و”محنة خلق القرآن”… صورة عباسية أخرى لاستغلال الديني في السياسي! 2/1
لكن، تنبغي الإشارة إلى أنه في العهد العباسي، ظهرت جماعة سلابين ونهابين يسمون بالعيارين أو الشطار، ورثوا أساليب صعاليك “الجاهلية”.
إلا أنه بينما كان الصعاليك يعوضون فسادهم بنهبهم لمن يثبت شحه فقط من الأغنياء، ثم إذا نهبوا وزعوا ما حصلّوه بينهم بالتساوي، كان هؤلاء الشطار ينهبون ولا فرق لديهم بين الأغنياء كما ولا يوزعون ما نهبوه.
هكذا… فقدت الصعلكة أخيرا صفتي الكرم والنبل، وحملت معناها السلبي مع الوقت.
تبنى الصوفية فكرة الفتوة واعتبروها من الفضائل التي يحثون المريد على التمسك بها…
وفيما يحكى، فقد ألف الجاحظ رسالة في لصوص العرب، غير أنها مفقودة.
بالمناسبة، كلمة “شاطر” تطلق على الخبيث الفاجر، وفي القواميس: الشاطر هو من أعيا أهله خبثا. لاحقا فقط أخذت الكلمة معنى الماهر في أي صنعة، وذات المعنى تحمله إلى اليوم في لساننا.
أيا يكن، الذي نخلص إليه أن الصعلكة قد اختفت كفرقة في الإسلام، وظهرت فرقة تشبههم هم الشطار؛ احتفظوا بوسائل الصعاليك (النهب والسلب) ولم يحتفظوا بالغاية.
إضافة
يرى أحمد أمين أن الفتوة أضافت حسا فنيا للعرب على امتداد تاريخهم، فقد كانت للفتيان مجالس يلجأ إليها المغنون، يحيون أوقاتهم فيها بالغناء، كما ويجدون فيها مطعمهم ومشربهم.
ثم إن معنى الفتوة في الإسلام كان مصدرا لفضيلتين هما الكرم والفروسية.
اقرأ أيضا: العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4
هذه الفروسية لا شك أنها تنبع مما يعرف بـ”الجاهلية”، حيث كان الفتيان يعيشون عيشة وجاهة، يودون السمعة الحسنة فيغدقون على الفقراء، بخاصة الشعراء منهم، ويطلبون الثناء بإكرام ضيوفهم.
تنبغي الإشارة إلى أنه في العهد العباسي، ظهرت جماعة سلابين ونهابين يسمون بالعيارين أو الشطار، ورثوا أساليب صعاليك “الجاهلية”.
وقد كان في تعاليم الإسلام، من وجهة نظر أحمد أمين، ما يشجع على الفتوة مثل إعطاء الفقير، ورفع الظلم عن المظلوم، والجنوح إلى السلم إذا جنح العدو إليه…
أيضا كما رأينا في الجزء الثاني، تبنى الصوفية فكرة الفتوة واعتبروها من الفضائل التي يحثون المريد على التمسك بها، كما رأينا في الرسالة القشيرية والفتوحات المكية…
أما فيما يخص الصعلكة، فأمين يرى أنها أفادت كثيرا في التخفيف من ويلات الفقر أيام “الجاهلية”.
اقرأ أيضا: في مكة والجاهلية والحج: قصي بن كلاب يؤسس المدنس على المقدس
كان الجاهليون كما رأينا سابقا ينقسمون إلى شيوخ قبائل ينعمون بالغنى والترف، هم ومن يتصل بهم، فيما كان الباقون رعاعا لا يجدون ما يأكلون…
يحارب أفراد القبيلة فيقاتلون ويُقتلون ويُجرحون، حتى إذا غنموا ذهبت لشيخ القبيلة خير الغنائم، التي أطلق عليها اسم خاص هو “الصفايا”.
لقراءة الجزء الأول: بين الفتوة والصعلكة… هذا ما يعنيه أن تكون شابا عربيا فيما مضى! 3/1
لقراءة الجزء الثاني: الفُتوّة في صدر الإسلام… كلمة واحدة ومعانٍ متعددة! 3/2