شغب ناعم، الجارية التي حكمت دولة العباسيين وعينت جارية… قاضية القضاة 2/2
كان منصب قاضي القضاة، واحدا من أرفع المناصب في الدولة العباسية، وقد كان حكرا على الرجال إلى أن حلت سنة 306 هجرية.
حينها، أصدرت “الجارية” شغب قرارا بتعيين الجارية “ثمل”، قاضية للقضاة في بغداد، عاصمة الخلافة آنذاك، وهو حدث كان سابقة في العالم الإسلامي كله.
“ثمل”، صارت قاضية… تجلس في الرصافة ببغداد كل يوم جمعة، لتنظر في شكاوى الناس وقضاياهم، ويجلس معها القضاة، والفقهاء، وكبار الموظفين، والحجاب، لتنفيذ أحكامها التي… كانت تنفذ على عجل.
توقفنا في الجزء الأول من هذا الملف، عند قيام شغب بالتخلص من الجواري المنافسات لها.
في هذا الجزء، الثاني والأخير، نتناول كيف وصلت إلى كرسي الحكم.
للتذكير فقط، كما أشرنا إلى ذلك في الجزء الأول، لم يكن من السهل تتبع سيرة الجارية ناعم، فثمة مناطق ظل كثيرة تعتري حياتها، كما أن هناك إحجاما من المؤرخين عن ذكرها إلا فيما نذر.
في سعينا للبحث في سيرتها، وجدنا شذرات منها في تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري، والبداية والنهاية لابن كثير، والكامل في التاريخ لابن الأثير، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي، وتاريخ الخلفاء للسيوطي.
تخطيط من أجل الخلافة
استنكف المعتضد عن شغب رغم كل مجهوداتها، وواصل انصرافه عنها للأخريات، رغم كل ما بذلته؛ فقررت شغب أن تغير خطتها، وتنصرف نحو تدبير تسلم ابنها مقاليد الحكم، فبدأت بالتخطيط رفقة صديقتها “ثمل”، التي كانت مؤنسة لها، وكانت مساعدة لها وذراعها الأيمن في تنفيذ مخططاتها لقتل خصومها.
لم تنقل لنا الأخبار أي اعتراض من طرف الفقهاء أو رجال القضاء على تعيين “ثمل” قاضية للقضاة، رغم أنه قد تواجد حينها، علماء كبار. كما أن اسم ثمل لم يكن منسجما مع جلال المنصب، ولكن الفقهاء ردوا بشكل غير مباشر، إذ أخذوا في ترويج حديث “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، وإن كانت المصادر تشير إلى أن ثمل قد عرفت باستقامة سيرتها.
كانت خطة شغب تقوم على تقوية ارتباط ابنها بها، حتى تستطيع تدبير الأمر بعد توليه الخلافة، وهو ما نجحت فيه، إذ أصبح لا يطيق فراقها، ولا يستطيع التصرف دون أمرها. بعدها، شرعت تزيح من تبقى من خصومها، فقتلت الجارية “جيجك”، التي عرفت بأم علي، الذي كان أكبر أولاد الخليفة المعتضد، والحامل لولاية العهد من بعده.
فجأة، مات الخليفة المعتضد سنة 289، وتولى ابنه (علي) الخلافة باسم “المكتفي”. الأخير كان يبلغ خمسا وعشرين سنة، بينما المقتدر، ابن شغب، كان في السادسة من عمره، أما القاهر فقد كان في عامه الثاني فقط.
شغب… سيدة دولة بني العباس
بمجرد ما أتم المقتدر ابن شغب ثلاثة عشر سنة من عمره، حتى اعتل المكتفي ومات، وعمره إحدى وثلاثون سنة. بحسب ما يروي ابن الجوزي، فإنه: “لما اشتدت علة المكتفي في ذي القعدة سنة 295 هجري، سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر، فصح عنده أنه بالغ فأحضر القضاة فأشهدهم أنه قد جعل العهد إليه وبويع بالخلافة بعد وفاة المكتفي”.
كان المقتدر أصغر من تولى الحكم في تاريخ بني العباس، وهكذا كانت شغب هي المسيرة الفعلية للدولة، وقد كان أول ما فعلته، إصدار الأمر بتحريم النطق بلقب شغب، ليصبح اسمها الرسمي “السيدة أم المقتدر”. كما منعت النطق بلقب “ثمل” وأعطتها لقبا جديدا هو أم موسى القهرمانة، وجعلتها وصيفتها الخاصة وقهرمانة القصر العباسي، بعدما عزلت فاطمة القهرمانة، وصادرت أموالها قبل أن توجد فاطمة غريقة في نهر الفرات.
اقرأ لنفس الكاتب: وكان دم “جارية”… أغلى من كل الوطن
مقابل هذا، أطلقت يد ثمل حتى كانت لها سلطة عزل الوزراء، أو استبقاؤهم. بعد ذلك، صادرت شغب ممتلكات جواري المعتضد، وقامت بتوزيعها على جواريها وأعوانها، وكذلك فعلت مع عدد من الوزراء والقضاة، كالوزير حامد بن العباس وعلى بن عيسى.
من الحوادث المأثورة في هذا السياق، أن الوزير ابن الجراح لم يبد كبير احترام للقهرمانة أم موسى (ثمل)، فأخذت تضايقه وضغطت عليه لتقديم استقالته، ثم صادرت أموال أتباعه، وكانت ستصادر أمواله، قبل أن يلجأ للخليفة المقتدر طالبا شفاعته، بعدما تمرغ تحت أقدامه.
الجارية ثمل… قاضية القضاة
كان منصب قاضي القضاة، واحدا من أرفع المناصب في الدولة العباسية، وقد كان حكرا على الرجال إلى أن حلت سنة 306 هجرية، عندما أصدرت شغب قرارا بتعيين ثمل قاضية للقضاة في بغداد، عاصمة الخلافة آنذاك، وهو حدث كان سابقة في العالم الإسلامي كله، إذ أضحت ثمل تجلس في الرصافة ببغداد كل يوم جمعة، لتنظر في شكاوى الناس وقضاياهم، ويجلس معها القضاة، والفقهاء، وكبار الموظفين، والحجاب، لتنفيذ أحكامها التي… كانت تنفذ على عجل.
رغم أن شغب هي من ربت القاهر، لكنه لم ينس أنها قاتلة والدته، فكان أول ما قام به، اعتقالها والإشراف شخصيا على تعذيبها، كما صادر منها كل ممتلكاتها، واستمر يعذبها إلى أن توفيت تحت وطأة العذاب.
ولم تنقل لنا الأخبار أي اعتراض من طرف الفقهاء أو رجال القضاء، رغم أنه قد تواجد، حينها، علماء كبار. كما أن اسم ثمل لم يكن منسجما مع جلال المنصب، ولكن الفقهاء ردوا بشكل غير مباشر، إذ أخذوا في ترويج حديث “ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”، وإن كانت المصادر تشير إلى أن ثمل قد عرفت باستقامة سيرتها.
شغب راعية الطب
سنة 306، قامت شغب بإعطاء الأمر بإنشاء بيمارستان على نهر دجلة، وقد أرجع البعض قرارها إلى هوسها بابتداع السموم العصية على الكشف. كما ضم البيمارستان قسما مخصصا لمعالجة مرضى العشق.
أشرف “سنان بن ثابت بن قرة” على المستشفى، وخصصت له مبلغا تجاوز 600 دينار، كما عرف هذا المستشفى أيضا، إجراء اختبارات الأطباء الذين تتم إجازتهم لممارسة الطب.
نهاية الوصال بين شغب وثمل
لم يبق الوصال دائما بين شغب ثمل، إذ أخذ الخلاف يدب بينهما، حتى جاءت سنة 310 هجرية، التي عرفت نكبة أم موسى أو ثمل.
بحسب ما أرود ابن الجوزي، في هذه السنة: “سخط على أم موسى القهرمانة، وقبض عليها، وعلى أنسابها، ومن كانت تعنى به، فصح منها في بيت المال ألف ألف دينار “.
اقرأ أيضا: النبوة والمسألة السياسية… حين وجد العرب في ادعاء النبوة سبيلا لسياسة الناس! 3/1
لم تفرد المصادر حيزا كبيرا لتناول سبب الخلاف الذي دب بين الصديقتين، إذ يقول ابن الجوزى عن سبب خلافهما: “واختلف في السبب فقيل: أن المقتدر اعتل فبعثت إلى بعض أهله ليقرر عليه ولاية الأمر فانكشف ذلك … وقيل: بل زوجت بنت أخيها إلى أبي بكر بن أبي العباس محمد بن إسحاق بن المتوكل، فسعى بها أعداؤها، وثبتوا في نفس المقتدر والسيدة والدته أنها ما فعلت ذلك إلا لتنصب محمد ابن إسحاق في الخلافة، فتمت عليها النكبة”.
ومهما كان الأمر، فسواء كان استغلال ثمل لمرض المقتدر، أو سعيها في المصاهرة مع بني العباس لترقى للحكم، فقد أنهت شغب صراعها معها، وأزاحتها عن الساحة.
نهاية شغب
كانت الدولة العباسية بحرا متقلبا تنازعتها الأهواء، وكان لقادة الجيش الكلمة الكبرى، وكثير منهم لم يكونوا ينظرون بعين الرضا إلى تولي شغب لمقاليد الحكم، فدبر الجند الأتراك انقلابا على المقتدر، ونصبوا أخاه القاهر، فيما سجنوا شغب. لكن ولاء بعض قادة الجيش لشغب أعاد الأمور لنصابها، فأرجعوا المقتدر، الذي أطلق سراح أمه كما عفا عن أخيه القاهر المنقلب عليه.
بعدها بسنوات، سيعود الأتراك للثورة على الخليفة المقتدر، إذ سيقود القائد التركي مؤنس الخادم، سنة 320 هـ، انقلابا سيقتل فيه الخليفة المقتدر، ويتولى الخليفة القاهر مقاليد الحكم.
رغم أن شغب هي من ربت القاهر، لكنه لم ينس أنها قاتلة والدته، فكان أول ما قام به، اعتقالها والإشراف شخصيا على تعذيبها، كما صادر منها كل ممتلكاتها، واستمر يعذبها إلى أن توفيت تحت وطأة العذاب.
بهذا انتهت قصة شغب، مخلفة فصولا درامية في تاريخ بني العباس، الذي كثيرا ما شهد فصولا مشابهة، سنخصص لها ملفات قادمة.
لقراءة الجزء الأول: شغب ناعم… قصة جارية حكمت الدولة العباسية 1/2