“نصوص متوحشة”: هكذا أسس أبو حامد الغزالي لخطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/2
الخطورة، كل الخطورة، تكمن في أن النص الذي تركه الغزالي ونخوض فيه بهذا الجزء الثاني، يتعامل به البعض مع من يختلفون معهم في لحظة صراع سياسي، ويؤسس بذلك لحالة تفتح مجال التكفير مدى الزمان، لأن الغزالي لم يشرع فيه لمحاربة الباطنية فقط، إنما أسس نصا خطيرا في التكفير.
نواصل في هذا الملف عرضنا لكتاب الباحث البحريني، أحمد علي الديري، “نصوص متوحشة”، الذي يحاول فيه تفسير السياق التاريخي والسياسي الذي مكن خطاب التكفير من شرعيته الدينية ومن تثبيت أطروحاته ضمن الحس الإسلامي العام.
بعد الجزء الأول الذي تناولنا فيه مدخلا عن “التكفير” في التراث الإسلامي، في هذا الجزء الثاني، نتابع حكاية أبي حامد الغزالي مع “التوحش”، وتأسيسه لخطاب تكفيري “مُحْكم” ما زال البعض يستغله إلى اليوم كـ”أحكام شرعية” في لحظات الصراع السياسي.
ولد أبو حامد الغزالي في طوس (إيران) عام 450هـ، وتوفي عام 505هـ. لم يعش طويلا، لكن إرثه المكتوب، ضخم ومثير في آن، خلف أثره في الجدل السياسي والديني في العالم الإسلامي إلى اليوم.
الغزالي انتقل إلى بغداد في فترة السلاجقة، الذين حكموا باسم الخليفة العباسي بوصفه رمزا للشرعية في المنطقة السّنية. في الجهة المقابلة، كان هناك الفاطميون وهم شيعة اتخذوا النسل الفاطمي ليؤكدوا أنهم الأحق بالخلافة.
اقرأ أيضا: عن الغزالي وابن رشد: مشاهد من جريمة اغتيال
في خضم هذا الخلاف السياسي، كتب الغزالي “فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية”. لم يكتف فيه الغزالي بالنيل من الفاطميين، بل قارب القضية عقائديا ليخدم أهدافا سياسية… ولم يجد في ذلك أفضل من التكفير!
وظف الغزالي معرفته بالمنطق الأرسطي في صياغة معادلات التكفير صياغة منطقية لا تقبل التأويل… يقول إن الصريح في القرآن لا يقبل التأويل، وتأويله يعد تكذيبا، ومن يكذب صريحا في القرآن فهو كافر.
فعل ذلك وقد كان عالما فذا، يقول الديري، فتوفرت كتاباته على حجج مصاغة صياغة خطابية قوية وعلى منهج متماسك، لأنه درس المنطق دراسة عميقة وكتب فيه.
جدير بالذكر أن الغزالي بعد هذا الكتاب، كتب كتابا آخر بنفس الأجواء التكفيرية عنونه “الاقتصاد في الاعتقاد”، ثم دخل مرحلة جديدة ترك فيها الكتب العقائدية والفكرية وانصرف إلى الكتابة في التصوف.
كفّر الغزالي في كتابه الباطنية، وأوجب سفك دمهم. هؤلاء يقصد بهم الإسماعيلية خصوصا، وما انضوى تحت لواء التشيع عموما.
كان الغزالي في ذلك ينفذ خطة نظام الملك (أحد أشهر وزراء السلاجقة) الذي اعتبر الباطنية العدو الأول، في كتابه “سفر نامه”.
أما “المستظهرية” وفضائلها، فيشير بها الغزالي في عنوان كتابه إلى الخليفة العباسي المستظهر بالله، ويريد بذلك تكريس شرعيته.
اقرأ أيضا: دولة “الإسلام”: من العدل والرحمة إلى الجور والاستبداد… حكم “السفاح المبيح” 3/3
الغزالي نعت مواقف الخليفة في كتابه بـ”المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية” لإضفاء القداسة على مواقفه، مستعيرا خطاب الباطنية في تقديس الإمام الذي يعتقدون به.
هذا النزوع إلى الدفاع عن الخليفة العباسي، قابله هجوم شرس على مناوئيه السياسيين؛ على وجه التحديد الفاطميون الذين كانوا في مصر، إضافة إلى حسن الصباح وجماعة الحشاشين.
نفهم هذا الهجوم الشرس، إذا ما علمنا أن هؤلاء شكلوا خطورة سياسية على الحكم العباسي، بلغت في فترة من الفترات ذكر اسم الخليفة الفاطمي في خطب الجمعة ببغداد.
ارتد التكفير على الغزالي في عهد يوسف بن تاشفين، ثاني سلاطين المرابطين بالمغرب، حيث وصل الأمر إلى إحراق بعض كتبه واعتبروها ضلالا، إذ اعتبروا أن الغزالي فتح فيها المجال أمام تكفير الآخرين بناء على تأويلاته.
يقسّم الغزالي معتقدات الباطنية إلى مرتبتين؛ إحداهما توجب التخطئة والتضليل والتبديع، والأخرى توجب التكفير والتبري.
على أن مرتبة التضليل مجرد عتبة موصلة لمرتبة التكفير، فالغزالي لا يضع حدودا لهذه الأخيرة، ذلك أنه بحاجة إلى تمطيطها متى ما احتاج ذلك لاصطياد المعارضين السياسيين وإدخالهم إلى قائمتها.
الغزالي وظف معرفته بالمنطق الأرسطي في صياغة معادلات التكفير صياغة منطقية لا تقبل التأويل… يقول إن الصريح في القرآن لا يقبل التأويل، وتأويله يعد تكذيبا، ومن يكذب صريحا في القرآن فهو كافر.
مثلا، من يعتقد أن الجنة والنار والثواب والعقاب، هي مسائل مجازية قابلة للتأويل الرمزي، فهذا يعد تكذيبا صريحا ويجب تكفيره.
لكن ما الصريح تحديدا؟ وما غير الصريح؟ تلك مسألة قابلة للاختلاف عنده بغاية التوظيف السياسي دائما.
على أنه كفر صراحة من يعتبر ما جاء في القرآن عن الجنة والنار آيات مجازية، وكفر من ينكر الأحاديث الكثيرة الواردة حول فضائل الخلفاء، وكفر من يكفر الخلفاء، وكفر من يخالف صريح القرآن، وكفر من يكفر أهل السنة والجماعة، وكفر من ينكر الحور العين، وكفر من يخالف ما أجمع عليه العلماء.
بالمناسبة، التكفير ارتد على الغزالي في عهد يوسف بن تاشفين، ثاني سلاطين المرابطين بالمغرب، حيث وصل الأمر إلى إحراق بعض كتبه واعتبروها ضلالا، إذ اعتبروا أن الغزالي فتح فيها المجال أمام تكفير الآخرين بناء على تأويلاته.
يقرر الغزالي أنه لا يسلك بالذين كفّرهم مسلك “الكافر الأصلي”، لأن الإمام مخير مع هذا، ويمكن أن يعامله ويفعل به ما شاء، إنما المرتد لا يمكن للخليفة أن يتخير فيه؛ وفق الغزالي: “من الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم”.
بعد أن بسط خطاب التكفير، افتتح الغزالي الفصل الثاني من الباب الثامن لكتابه، بعنوان “في أحكام من قضي بكفره منهم”…
في فقرة واحدة مكثفة، يأتي على تفصيلها لاحقا، يقول الغزالي: “والقول الوجيز فيه أنه يسلك بهم مسلك المرتدين في النظر في الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية (ما قضي فيه من أحكام وعقود) وقضاء العبادات”.
بمعنى أن الذين كَفّرهم، حُكمهم، حكم المرتد في جميع ما ورد أعلاه.
الغزالي يقرر أنه لا يسلك بهم مسلك “الكافر الأصلي”، لأن الإمام مخير مع هذا، ويمكن أن يعامله ويفعل به ما شاء، إنما المرتد لا يمكن للخليفة أن يتخير فيه؛ وفق الغزالي: “من الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم”.
اقرأ أيضا: من مصر، ماجد سنارة يكتب: اقتلوهم… إنهم مرتدون!
الخطورة، كل الخطورة، تكمن في أن هذا النص الذي تركه الغزالي، يتعامل به البعض مع من يختلفون معهم في لحظة صراع سياسي، ويؤسس بذلك لحالة تفتح مجال التكفير مدى الزمان، لأن الغزالي لم يشرع فيه لمحاربة الباطنية فقط، إنما أسس نصا خطيرا في التكفير.
ونص التكفير يبقى مدى الزمان… يبقى لأنه بمثابة الفتوى أو الحكم الشرعي لدى البعض، يمكنهم استغلاله متى أرادوا!
في الجزء الثالث، نتابع كيف وضع ابن تومرت لمسته على خطاب التكفير في التراث الإسلامي.
لقراءة الجزء الأول: “نصوص متوحشة”… عن خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/1
لقراءة الجزء الثالث: “نصوص متوحشة”: هكذا وضع ابن تومرت لمسته على خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/3
لقراءة الجزء الرابع: “نصوص متوحشة”: هكذا وطّد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/4