الشعر ديوان العرب في الزندقة أيضا… قبل أن يطاله مقص رواة الأخبار! 2/1
من بين مواضيع عدة قرض فيها العرب الشعر، ثمة موضوع كان يمكن أن يشكل وثيقة تاريخية ثمينة اليوم، لكن وبفعل فاعل، اختفى أغلبه من كتب التراث… نتحدث هنا عن شعر الزندقة، الذي نفرد له هذا الملف لنتعرف على السياق الذي ظهر فيه، مظاهره، وكيف تمت مواجهته.
قال الشاعر أبو فراس الحمداني في إحدى قصائده: “الشعر ديوان العرب”… ثم جرت هذه المسكوكة اللغوية بعد ذلك مجرى الأمثال، وباتت تذكر كلما توجه القصد إلى أهمية الشعر في التاريخ العربي.
لن يختلف اثنان في أن الشعر كان ذاكرة العرب، به يدونون تاريخهم… تاريخ بطولاتهم وإحباطاتهم، وأساسا؛ تاريخ مجتمعهم وأسلوب حياتهم…
من بين مواضيع عدة قرضوا فيها الشعر، ثمة موضوع كان يمكن أن يشكل وثيقة تاريخية ثمينة اليوم، لكن وبفعل فاعل، اختفى أغلبه من كتب التراث…
نتحدث هنا عن ما يسميه العرب، شعر الزندقة، الذي نفرد له هذا الملف في جزأين، بالاعتماد على بحث أجراه الشاعر العراقي جمال جمعة، ونشره عام 2007 بعنوان “ديوان الزنادقة”.
كانت الجزيرة العربية، قبل الإسلام، بيئة مدنية متعددة ومتعايشة المذاهب والأديان… بعضها كان يدين بالوثنية وآخرون باليهودية، نجد النصرانية أيضا، ثم الصابئية والحنيفية والمجوسية، إضافة إلى ملاحدة قريش وزنادقتها.
الواقع أن مكة كانت نموذجا للوحدة والتناغم داخل التعددية؛ فالمجتمع العربي، حينذاك، لم يشهد، وفق ما دونه التاريخ، أي تناحر ديني أو مذهبي قبل مجيء الإسلام.
اقرأ أيضا: الإلحاد في تاريخ الإسلام: حين استنفدت الروح العربية قواها الدينية! (الجزء الأول)
وحتى حين بدأ المشهد الديني الجديد يتشكل بظهور الإسلام، لم تنزعج قريش إلى الحد الذي يدعوها لأذية الرسول محمد ومن اتبعه، إلا حين تعاظم الوضع. المكيون حينذاك كانوا قد ألفوا خروج بعضهم عن عبادات قومهم.
دخل الشعر بالنسبة للرسول والمسلمين كحليف رديف للقرآن، لنشر أفكار الدين الجديد من جهة، والذود عن النبي والنيل من خصومه من جهة أخرى. فيما استخدمه الجانب الآخر للنيل من الرسول والمسلمين، قصد الهجاء والنيل من الأعراض من جهة، وللهزء بالدعوة الجديدة وتبيان زيغها عن تراث الآباء من جهة أخرى.
يقول أبو العلاء المعري في كتابه “رسالة الغفران”: “لم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم… بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء، وما سلف من كتب القدماء؛ إذ كان الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي”.
بعض ما وثقه القرآن على لسان هؤلاء، يكشف عن حياة عقلية قوية واطلاع ثقافي واسع على أفكار الديانات الأخرى والميثولوجيا المتداولة، حتى إن بعضهم كان ينعت قصص الأنبياء في القرآن بـ”أساطير الأولين”.
حين بدأت مرحلة الصدام العسكري وقبله الصدام الفكري بين الرسول ومناوئيه، كان الشعر إحدى الأدوات الأساسية في هذا الصدد.
دخل الشعر بالنسبة للرسول والمسلمين كحليف رديف للقرآن، لنشر أفكار الدين الجديد من جهة، والذود عن النبي والنيل من خصومه من جهة أخرى. فيما استخدمه الجانب الآخر للنيل من الرسول والمسلمين، قصد الهجاء والنيل من الأعراض من جهة، وللهزء بالدعوة الجديدة وتبيان زيغها عن تراث الآباء من جهة أخرى.
اقرأ أيضا: هؤلاء 10 من أشهر شعراء العرب… يهود ومسيحيون في زمن الجاهلية! 2/1
بعد أن استتب الإسلام في الجزيرة العربية وخمدت ظاهريا هذه الصراعات، ما لبثت أن انفجرت بعد موت الرسول. عدد كبير من أعداء الإسلام كانوا قد دخلوه في الأمس خشية القتل غداة فتح مكة؛ أما وقد توفي الرسول، فقد كان أن حان لهؤلاء أن يفصحوا عما يبطنوننه.
الحقيقة أن تيار “الزندقة” كان يعبر عن نفسه منذ ظهور الإسلام على لسان الشعراء… ثنايا القصائد التي قرضت حينذاك، كانت ملأى بالحنين إلى شرب الخمر والتغني بها، والحيرة من قضية المَعاد وفناء الإنسان، والتبرم من الفروض الدينية والتوق لأيام الحرية في “الجاهلية”.
“أول وأخطر جنحة ثقافية في عمليات تنقيح كتب التراث، تلك التي قام بها ابن هشام حين شذب السيرة النبوية التي كتبها سلفه ابن إسحاق عام 151 للهجرة”.
تيار الزندقة هذا تطور في العصر العباسي إلى تنظيم فكري رصين، يناقش ويؤلف الكتب لدحض النبوة وتسفيه الشريعة ونقد القرآن، حتى اضطر الخليفة المهدي، ثالث الخلفاء العباسيين، بعد تطور الأمور، إلى إنشاء ديوان أسماه “ديوان الزنادقة” بغرض مطاردتهم.
يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه “من تاريخ الإلحاد في الإسلام“: “كان يُقبض على الزنادقة لأقل شبهة، ويؤتى بهم أمام القاضي فيطلب منهم أن يرجعوا عن الزندقة إن اعترفوا بها، ثم يطلق سراحهم إن رجعوا عنها، ويقتلون إذا استمروا عليها ورفضوا الخروج عنها”.
اقرأ أيضا: من مصر، ماجد سنارة يكتب: اقتلوهم… إنهم مرتدون!
مفهوم الزندقة، في الواقع، بدأ ملتبسا لكن بمرور الوقت أُجمع على أن الزنديق هو القائل ببقاء الدهر، ومن ثم لا يؤمن بوحدانية الخالق والآخرة.
لم تكن العرب تستخدم المفردة، فرجل زندق أو زندقي؛ تعني أنه شديد البخل، أما إذا أرادوا المعنى الذي نقصده، قالوا ملحد أو دهري.
في صدد ملفنا، من بين أبرز ما يطالعنا من مظاهر الزندقة، حينذاك، ما دون منها، سواء في صيغة شعر أو نثر.
تيار “الزندقة” كان يعبر عن نفسه منذ ظهور الإسلام على لسان الشعراء… ثنايا القصائد التي قرضت حينذاك، كانت ملأى بالحنين إلى شرب الخمر والتغني بها، والحيرة من قضية المَعاد وفناء الإنسان، والتبرم من الفروض الدينية والتوق لأيام الحرية في “الجاهلية”.
أما المنثور منها، فقد أتلف تماما وأصابه ما أصاب أصحابه من القتل والحرق والتشريد، فلم يبق منه إلا المتناثر في الكتب بغاية الرد عليه أو تفنيده. أما النصوص الشعرية، فقد بقيت عرضة للحذف والبتر والتغييب، مع كل طبعة تستجد في كتب التراث.
يرى الباحث جمال جمعة، أن أول وأخطر جنحة ثقافية في عمليات تنقيح كتب التراث، تلك التي قام بها ابن هشام حين شذب السيرة النبوية التي كتبها سلفه ابن إسحاق عام 151 للهجرة؛ فعملُ الأخير يعد المصدر الأساس لكل من كتب سيرة الرسول، لكنه الآن في عداد الكتب المفقودة.
عملية تشذيب واصلها ابن منظور، يقول جمعة، إذ حذف كل الأشعار التي اعتقد أنها نالت من الرسول والمسلمين، فنكون بذلك قد فقدنا وثيقة تاريخية “بالغة الأهمية” تؤرخ للصراع الفكري بين الرسول ومناوئيه في الجزيرة العربية.
في الجزء الثاني، سنعرض بعضا من أهم الشعراء الذين عرفوا بالزندقة في الفترة التي ذكرناها، كما سنقدم أبيات من قصائد أفصحوا فيها عن “كفرهم”.
لقراءة الجزء الثاني: في الزندقة: هؤلاء 7 من أشهر شعراء العرب، لم يهادنوا الإسلام في شعرهم! 2/2
الشعر ديوان العرب”- هذه الكلمة ليست لأبي فراس الحمداني ، بل هي جملة أطلقها عبدالله بن عباس، في مطلع البعثة النبوية ، حيث كان يخاطب أغلب الصحابة وهو يشرح لهم ما استعجم من ألفاظ القرآن ، وقال لهم ، ” إن عجزتم عن فهمه فردّوه الى الشعر الجاهلي، فالشعر ديوان العرب ” .