الحرب النفسية داخل الأسرة - Marayana - مرايانا
×
×

الحرب النفسية داخل الأسرة

كيف يمكن للأسرة أن تكون مصدر العقد النفسية أو “التعاسة القاتلة”؟

“كلما زاد تعلقك بأسرتك كلما زادت مشاكلك النفسية”، عبارة وردت على لسان أحدهم حين كنت في طريقي إلى الجامعة، فاستوقفتني لهنيهات حتى أحاول فهمها بداية ثم مناقشة درجة صحتها. فكان أول تعليقي: لماذا الأسرة بالضبط؟ أليس كل تعلق بحد ذاته خطأ ؟

ربما قد يتساءل آخر: أليست الأسرة هي مصدر الأمان والاستقرار النفسي؟ كيف للأسرة أن تكون مصدر المشاكل النفسية في الوقت الذي يعاني فيه من لا مأوى ولا أسرة له أضعاف معاناة البشرية. الجواب بسيط: الأسرة هي أول ما نراه حين نفتح أعيننا وآخر ما نتمنى رؤيتك حين نفارق الحياة. فهي إما مصدر سعادتنا الكبيرة، أو تعاستنا القاتلة.

ثم تساءلت: كيف يمكن للأسرة أن تكون مصدر العقد النفسية أو “التعاسة القاتلة”؟ وأقرب جواب تبادر إلى ذهني هو الصراعات الأسرية، أو صراع الأجيال.

في العالم أجمع، لازال صراع الأجيال قائما داخل كيان الأسرة. ومع التقدم في الزمن، أصبح هذا الصراع يترجم بشكل مختلف. هو درجات تتفاوت حدتها؛ منه ما لا يتجاوز حد الفكرة، منه ما يترجم إلى أقوال ومشادات، ومنه ما يرتقي إلى أن يصير أفعالا وردود أفعال قد توصف بـ”القاسية”.

ثم تساءلت: هل يمكن لصراع الأجيال وحده أن يسبب العقد النفسية؟ الجواب ليس بسيطا أبدا؛ الأمان والاستقرار في البيت أحد ركائز الصحة النفسية لكل شخص كيفما كان. فكلما وجدت راحتك ومأواك داخل البيت، كلما ضمنت قدرا كبيرا من صحتك النفسية. فصراع الأجيال ما هو إلا فتيلة تشعل هذه النار التي وقودها الصراعات والمشاكل الأخرى. وهذه المشاكل تختلف من بيت لآخر، ويختلف تأثيرها باختلاف الأشخاص.

لعل الدراسات تشير أن معظم المشاكل النفسية التي يعاني منها الشباب اليوم هي راجعة إلى صراعاتهم داخل أسرتهم. قد يكون ذلك راجعا إلى أبوين سامين، أب نرجسي وأم حدية أو العكس، أو ربما صراعات مستمرة ناتجة عن ظروف مادية أو غيرها. فأسباب المشاكل الأسرية قد تختلف، لكنها في النهاية تعود بنتيجة واحدة: شاب فريسة لعقد نفسية. فتنجرح نفسية الطفل الذي سيربي جيلا بأكمله.

ثم تساءلت: متى يبدأ هذا الافتراس النفسي؟ كما لا يخفى، الطفولة منبع المشاكل والعقد النفسية. حين تزور مستشارا أو معالجا نفسيا، أول ما يحاور هو ذلك الطفل الذي في داخل الإنسان. لأن الطفل هو وعاء فارغ، يتلقى المبادئ والتربية من طرف الاسرة الحاضنة، فتنشأ شخصيته انطلاقا مما تزرعه الاسرة داخله.

ثم تبدأ مرحلة المراهقة. حينها، يبدأ باستثمار ما تزود به ويخرج به إلى العالم الذي صار أكبر من عالمه الطفولي الصغير. فأول ما يبتدأ به هو نقد شخصيته وهويته، يجد نفسه مكبلا بحبال ترجع الى طفولته، فيبحث ليجد أن ما عليه هو الآن إنما هو ثمرة التربية التي تلقاها. فإن كان ممتنا لشخصيته -وهذا أمر يصعب تحققه في هذه المرحلة- صار ممتنا للتربية التي تلقاها. أما إن كان الأمر عكس ذلك -وهو الشائع- صار يلوم أضعف حلقة في دوامة المسؤولية التربوية: وهي الأسرة.

وهكذا، يكون قد غذى أول عنصر من عناصر حربه النفسية. ثم يقرأ ويسأل ويبحث، بل وأحيانا يجمع شتات الأفكار والمعلومات وربما كلمات متطايرة ليخلص في النهاية إلى ضرورة اعتزال أسرته التي سببت له هذا النقص.

بغض النظر عن مدى صحة هذه المشاكل، فإن المتضرر الأكبر هو الشاب الجريح. وهنا بالتحديد ينشأ الصراع بين الطفل الذي يريد أن يعود إلى مأواه وحضنه الدافئ، وبين الشاب المجروح الذي يريد اعتزال ما يجرحه.

فتبدأ رحلته الجديدة: قد يتجاوز الشاب هذه المرحلة بأن يؤمن إيمانا جازما أن أفكاره تلك لم تكن صحيحة، وأنها ربما من نسج خياله وقلة وعيه، وبحثه المستمر عن الخطأ الذي هو وهم. أو ربما يضعف أمام حاجته الماسة لذلك الحضن الدافئ فيعود دون مناقشة الكيفية أو السببية؛ فيرجع محاولا مداعبة جروحه حتى يتناساها ويضمها.

وقد لا يتجاوزها بأن يحاول الابتعاد والانتصار على ذلك الطفل الضعيف. وهنا تتغذى لديه العقدة بشكل أعمق فتنغرز بين ثناياه وتتغلغل في عروقه، ليصبح غير قادر على إيجاد ذلك الحضن الأسري الدافئ. ومن ثم غير قادر على احتواء أي أحد. تبقى هذه الوذمة النفسية تتغذى وتتغذى داخله، فيحس بذلك الفراغ العاطفي الذي يثقب داخله؛ فيبدأ الشاب بالبحث عن سد هذه الثغرة بشتى الطرق التي تعود عليه حتما بالضرر فيصبح كالغريق الذي يبحث عن قشة ليتعلق بها. يتعلق بأشياء زائلة وغالبا لا تكترث لعطشه وتعلقه الكبير بها. فتستنزف طاقته بشكل أكبر فتبدأ في افتراسه. قد يجد هذا الشاب نفسه، ربما، أمام حافة الانحراف، وقد يجد نفسه أمام أسوأ منها.

في أحسن الحالات، سيجد نفسه سائرا بهذه العقد النفسية نحو بناء أسرة جديدة يكون هو ربها. فكيف يمكن لفاقد الشيء أن يعطيه؟ كيف يمكن لفاقد الاحتواء أن يحتوي؟ كيف يمكن لهذه الأسرة أن تنشأ سليمة ؟

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *