من مصر، سارة أحمد فؤاد: “أنا هلعانة”… عن الهلع كمرض نفسي!
لا أنكر أنني تغيرت كثيراً، تغيرت نظرتي العابثة الشغوفة لتحل محلها نظرة ثابتة وباردة وقاسية أحياناً. تعلمت أن أعقد صداقة مع أشباحي طالما سأضطر للحياة معها إلى أجل غير مسمى، بدلاً من أن أحاول طردها فأجدها أكثر تمسكاً بالبقاء. تعلمت أن الشيء الوحيد الذي أنا مجبرة عليه هو محاولة التوقف عن التفكير قليلاً. تعلمت أن البشر أكثر قسوة وجهلاً مما يبدون عليه…
البداية دائماً: من أنتم؟ ولماذا أنا؟
عندما أضافني صديقي لمجموعة سرية خاصة بدعم الأشخاص الذين يعانون من نوبات الهلع أو ما تعرف بالإنجليزية Panic attacks، شعرت بالدهشة؛ كوني لم أعانِ من نوبات الهلع في وقت سابق.
اعتدت زيارة الإستشاريين والمعالجين النفسيين، وطلب المساعدة النفسية دون خجل أو إحراج، لإيماني الشديد بأهمية الصحة النفسية لحياة الشخص. لم أعتد ممارسة ما يفعله الآخرون بانتظام من توجيه النصح للآخرين والترفع عن تطبيق النصيحة، خاصة فيما يتعلق بالصحة بوجه عام، والصحة النفسية على وجه الخصوص.
كم هو مضحك هذا الأمر… القلق اليوم أصبح مرضاً ويحمل اسما لاتينياً معقداً!
أعلم أن الأمر لا يبدو سهلاً، أن تضطر للاعتراف بأن شيئاً ما بصحتك العقلية أو النفسية ليس على ما يرام. اعتدنا في مجتمعاتنا التظاهر بالقوة والسيطرة، كما اعتدنا احتقار المرض والسخرية من المرضي.
في أماكن العمل، لا يتم التعامل بتسامح كبير مع (دور البرد/ الأنفلونزا) كسبب أو مبرر للتغيب عن العمل أو الحصول على إجازة مرضية. لا تستطيع النساء بسهولة الحصول علي إجازة مرضية بسبب آلام الدورة الشهرية. فما بالك بالاعتراف بتلقي دعم أو علاج نفسي؟
اقرأ أيضا: زكية حادوش: الصيدلي إسكوبار… في الصحةِ والصيدلةِ وقوانينِ عام الفيل!
بالعودة لنوبات الهلع
كانت المرة الأولي التي أنظر فيها عن قرب إلى عالم نوبات الهلع هي من خلال روايات الرفاق. للمرة الأولى أعرف كيف يبدو الأمر. كيف تبدأ ضربات قلبك في التسارع. كيف يتسارع معدل تنفسك. كيف تبرد أطرافك ثم يبدأ جسدك بالاهتزاز، مع حالة بكاء لا إرادي وفقدان كامل للسيطرة على التفكير أو القدرة على اتخاذ قرار سليم في أغلب الأحيان. فكرة ما تسيطر على عقلك وتسبب جميع هذه الأعراض…
حقيقة الأمر، شعرت بأن الموضوع لا يبدو بالخطورة أو الجدية التي يقدمها الآخرون، وأن الرفاق يبالغون… لماذا لا يبتعد الناس عن المنبهات والتدخين والمؤثرات المزعجة، ويكتفون باللبن الدافء قبل النوم أو بعض الأعشاب الطبيعية وكتابة الخواطر بانتظام منعاً لتراكم الأفكار السلبية؟
عن نوبة الهلع الأولى ونوبة الهلع الأخيرة… وما بينهما:
منذ سنتين تقريباً، أصابتني أولى نوبات الهلع. كنت أعاني من ظروف نفسية سيئة للغاية نتيجة لبعض الأحداث المؤسفة على الصعيدين المهني والشخصي. في هذه الفترة، كنت أحاول التظاهر بأنني على ما يرام، وبأنني لا أحتاج لأي مساعدة من أي أحد. أنا بخير، أو لست بخير، سأظل كذلك حتى أموت أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لا يتم التعامل بتسامح كبير مع (دور البرد/ الأنفلونزا) كسبب أو مبرر للتغيب عن العمل أو الحصول على إجازة مرضية. لا تستطيع النساء بسهولة الحصول على إجازة مرضية بسبب آلام الدورة الشهرية. فما بالك بالاعتراف بتلقي دعم أو علاج نفسي؟
ثم كانت نوبة الهلع الثانية بعد الأولى بيومين تقريباً. ثم ضربتني الثالثة كالإعصار خلال إحدى مهمات عملي خارج القاهرة. عندها، أدركت أنني أصبحت (منهم) وأنني بداخل الغرفة المظلمة… فمرحباً بي.
بعد أن تمالكت أعصابي المبعثرة وانتهيت من نوبة الهلع العنيفة، حاولت التعامل مع تلك الحقيقة، وتواصلت مع صديق للحصول على رقم طبيب نفسي \ psychiatrist (لم أشأ الاكتفاء بأخصائي نفسي \ psychologist)، فقد بات التدخل الدوائي ضرورة ملحة وعاجلة.
منذ البداية، كان الموضوع مربكاً! أنا لا أعاني من الاكتئاب، ولكنني أعاني من (اضطرابات قلق)!
كم هو مضحك هذا الأمر… القلق أصبح مرضاً ويحمل اسما لاتينياً معقداً!
احتجت لأكثر من جلسة مع الطبيب المعالج كي أتفهم حقيقة الإضطرابات التي أعاني منها، والتي تتخذ شكل أعراض جسدية عنيفة (هي ما شعرت به ويشعر به الكثيرون بالمناسبة).
لا أعرف كيف أشرح للقارئ معنى (أن أصاب بنوبة هلع)! بدا الأمر صعباً حينماً حاولت شرح الأمر لأفراد أسرتي أو زملائي بالعمل أو أصدقائي، حيث كان أول سؤال طُرح علي هو: “لماذا تشعرين بالهلع؟”
مراراً حاولت أن أشرح لهم أن الموضوع يختلف تماماً عن شعوري بالخوف من فيلم رعب أو انقطاع الكهرباء بالتأكيد، وأن ترجمة (نوبة هلع) هي ترجمة تعسفية للكلمة الإنجليزية panic attack وأن الهلع يعني (الخوف المفاجئ الشديد الذي يشل العقل من اتخاذ أي إجراء حمائي).
حاولت مراراً أن أشرح لهم أنني أعاني من اضطراب حاد في المزاج، وأن نظامي الغذائي مضطرب بسبب نوبات النهم المفاجئ المتبوع غالباً بالتقيؤ (بوليميا)، مما تسبب في زيادة وزني مؤخراً، وأنني أحياناً أرغب في ممارسة العديد من الأنشطة الإجتماعية، وفي أحيان أخرى لا أستطيع ممارسة نشاط بسيط كالرد على رسالة من صديق مقرب. مللت من توضيح أنني لا أشعر بالسعادة ولكني حمداً لله أشعر بالكثير من الرضا على وضعي الحالي، وأن أقصى أمالي في الحياة هو ألا أصاب بنوبة هلع جديدة.
لا يهم، كما قالت ميساء ضو: أنا حره بحالي…. لكن من قال إن هذا أمر يمكن التعاطي معه بسهولة؟ للأمر ضريبة من العلاقات الإجتماعية والمهنية أحياناً.
إحنا كتير…بس هلأ لوين!
تصنف اضطرابات القلق بأنها الاضطرابات الأكثر شيوعاً وانتشاراً بين الأشخاص، وتتراوح شدة الإصابة ما بين الخفيفة العابرة، أو الشديدة التي تتطلب تدخلاً دوائياً. يمكن دائماً علاج إضطرابات القلق من خلال الإنتظام في تعاطي الأدوية من فئة مضادات القلق، والعلاج النفسي الذي يتضمن الحديث والإستماع والإرشاد.
خطورة شيوع إضطرابات القلق يكمن في اعتياد الأفراد على أعراضها غير العنيفة، بالإضافة إلى رفض مريض القلق الاعتراف بأن أفكاره أصبحت تمثل له مشكلة لا يمكن التعامل معها.
كما أن البيئة المحيطة بالأشخاص المصابين بمثل هذا النوع من الاضطرابات، إن لم تتعامل مع المرض النفسي بقدر كبير من التسامح، فهي لا تتعامل مع (القلق) على أنه اضطراب يستدعي تدخل طبيب، أو حتى أخصائي.
شعرت بأن الموضوع لا يبدو بالخطورة أو الجدية التي يقدمها الآخرون، وأن الرفاق يبالغون… لماذا لا يبتعد الناس عن المنبهات والتدخين والمؤثرات المزعجة، ويكتفون باللبن الدافء قبل النوم أو بعض الأعشاب الطبيعية وكتابة الخواطر بانتظام منعاً لتراكم الأفكار السلبية؟
هل توجد إرشادات معينة أو قواعد يجب إتباعها عند التعامل مع مريض القلق؟ إذا قادك حظك للتعامل مع أحدهم، حاول أن تهدئ من أفكاره، أو على الأقل حاول ألا تزيد من حدتها ولو بمساعدة قد تبدو من وجهة نظرك ضرورية ولكنها قد تجعل الأمر أسوأ. إنهم، وإن ظهروا أمامك بمظهر هادئ وديع، إلا أن بداخل رؤوسهم دوامات عنيفة ليس لها من قرار.
أيوجد ضوء في نهاية النفق؟
تعلمت الكثير من مروري بنوبات الهلع. تعلمت أن (كل شيء سيمر)، وأن الثمن ليس بالضرورة باهظاً، ولكنه ليس هيناً. تعلمت كيف يمكن أن أفكر بالبحث عن الدواء أثناء مروري بالنوبة؛ وكيف، عندما يُشل مخي عن التفكير، أن أضع كل طاقتي العقلية للتفكير في النجاة. تعلمت بالطريقة العملية الصعبة أن ما لا يقتلك، يجعلك بالضرورة أكثر تسامحاً مع أفكارك السوداء، وأن ما تحاول كبته وقمعه سينفجر يوماً ما في وجهك بالتأكيد.
بدا الأمر صعباً حينماً حاولت شرح الأمر لأفراد أسرتي أو زملائي بالعمل أو أصدقائي، حيث كان أول سؤال طُرح علي هو: لماذا تشعرين بالهلع؟
لا أنكر أنني تغيرت كثيراً. تغيرت نظرتي العابثة الشغوفة لتحل محلها نظرة ثابتة وباردة وقاسية أحياناً. تعلمت أن أعقد صداقة مع أشباحي طالما سأضطر للحياة معها إلى أجل غير مسمى، بدلأ من أن أحاول طردها فأجدها أكثر تمسكاً بالبقاء. تعلمت أن الشيء الوحيد الذي أنا مجبرة عليه هو محاولة التوقف عن التفكير قليلاً، وأن من يحاول الفهم، سيفهم؛ ومن لم يفهم فلا جدوى من المحاولة معه. تعلمت أن البشر أكثر قسوة وجهلاً مما يبدون عليه…
اقرأ لنفس الكاتبة: المرأة الناشطة… جسد مستباح
تعلمت أن سلامي النفسي، سأجده بمفردي ودون مساعدة من أحد، اللهم الطبيب وعلبة أدوية الطوارئ في الحقيبة. تعلمت أن النجاة من تجربة قاسية تستحق الاحتفال، وأن القوي فقط هو من يختار الحياة كناج، وليس كضحية.
هذا المقال في حب هؤلاء الذين يتصببون عرقا في التجمعات ووسط الصخب، الذين ينزوون في ركن الغرفة ممسكين برؤوسهم في محاولة يائسة لإسكات الضوضاء داخل عقولهم، الذين لا يخشون النظر داخل الحفر العميقة.
الذين اعتادوا التجول داخل جوانبهم المظلمة، مصطحبي الأشباح ومصاحبيها. الذين تبدو أمزجتهم كالعواصف وظاهرهم مهذب وهادئ. من يحتفظون في جيوبهم وحقائبهم بأدوية الطوارئ التي تنجيهم من الموت، أو السقوط في البئر العميق.. لا يهم.
الذين يحتفلون في نهاية كل يوم بالنجاة، ولا يطمحون إلا في فرصة للنجاة يوما آخر.
الغرباء عن العالم وغير المتآلفين معه، والذين سيعيشون عمرهم يحاولون إزالة ذلك الحائط الزجاجي بينهم وبين العالم.
إلى الناجين، والمتعافين، ومن هم في طور التعافي.
*تمت كتابة هذا المقال للنشر في اليوم العالمي للصحة النفسية، وتأخر ظهوره لظروف خاصة بالكاتبة.