من الأردن، بشار حداد يكتب: #دمتم_وقودا
في منطقتنا الملتهبة التي تمتد على الأحضان الجنوبية والشرقية للمتوسط، والتي شاءت الأقدار أن تكون ساحة صراعات دينية وسياسية واقتصادية على مدى التاريخ، يستطيع المراقب أن يقرأ وجود أربعة مشاريع …
في منطقتنا الملتهبة التي تمتد على الأحضان الجنوبية والشرقية للمتوسط، والتي شاءت الأقدار أن تكون ساحة صراعات دينية وسياسية واقتصادية على مدى التاريخ، يستطيع المراقب أن يقرأ وجود أربعة مشاريع سياسية كبرى تتصارع لفرض السيطرة وإعلان التفوق حاضرا ومستقبلا.
للراغبين بفهم الصورة بشكل أعمق لرؤية صراعات هذه الخارطة السياسية، نستطيع تلخيص هذه المشاريع كالتالي:
1- المشروع الإيراني
مشروع سياسي ديني اقتصادي يدغدغ ويحاكي عواطف غالبية الطائفة الشيعية في المنطقة، خاصة في ما يسمى بالهلال الشيعي الأعلى في العراق وسوريا ولبنان، بالإضافة لدول الهلال الشيعي الأسفل في أطراف جزيرة العرب في الكويت البحرين واليمن، وذلك لتشكيل كماشة جغرافية مترابطة تضمن علو الكلمة لهذا المشروع.
المشروع التركي مشروع اقتصادي سياسي ديني يدغدغ عواطف الطامحين من الغالبية الصامتة بإعادة أمجاد الخلافة والحالمين بها
يسعى هذا المشروع بوضوح للسيطرة على دول كاملة ابتداء من شكل حكوماتها ومقدرات شعوبها، وصولا لاستخدام أدوات الضغط عند الحاجة وعند الشعور بالتهديد من الخارج أو الداخل. نجح هذا المشروع للآن بفرض نفسه كمشروع قوة إقليمية سياسية كبرى مدعوم بمشروع سلاح نووي، كقوة ردع في وجه مشاريع المنطقة والمشاريع الدولية الأخرى.
2- المشروع التركي
مشروع اقتصادي سياسي ديني يدغدغ عواطف الطامحين من الغالبية الصامتة بإعادة أمجاد الخلافة والحالمين بها من جهة، ويدغدغ من جهة أخرى المعجبين بإنجازات ونجاحات داخلية اقتصادية واجتماعية تسجل للرئيس أردوغان؛ وخاصة أمام أولئك الذين يَرَوْن فيه وفي التجربة التركية، تجربة يتمنون تطبيقها في بلدانهم المرهقة بالفساد والفاسدين.
اقرأ أيضا: إذا طالع العرب أنفسهم في مرايا يابانية، فهذا ما سيرونه… (الجزء الأول)
يراهن هذا المشروع أيضا على المأخوذين بالتصريحات الكلامية النارية التي يتقنها أردوغان من خلال اللعب على عواطف المتدينين ضد تسلط وهيمنة الغرب، والمتمسكين بفكرة صراع الحضارات وصراع الأديان، إضافة لامتلاك هذا الرئيس قدرة فريدة على اللعب على عواطف غالبية أبناء هذه المنطقة ممن يؤمنون بإستمرارية الحروب الدينية (التي انتهى عصرها في الواقع منذ أكثر من قرن على الأقل، وولدت بدلها صراعات أكبر بكثير من الصراعات الدينية… لكن، للأسف، بقي الدين فيها أحد أدوات صراعاتها المضمونة).
يعرف القائمون على المشروع الإسرائيلي كيف يظهرون أعداءه كعالم رجعي ورافض للمختلف عنه، وذلك من خلال دلائل ولغة وصورة إعلامية مقنعة للشعوب البعيدة التي تتابع ما يحدث بهذه المنطقة
المشروع التركي هو مشروع حقيقي أصبح واقعا على الأرض ويفرض قوته من خلال قوته الداخلية والبراعة منقطعة النظير، وذلك بالاستفادة من صراعات المنطقة، دون النظر لعدد ضحايا أو خسائر هذه الدول. وسيستمر هذا المشروع في فعل ما تقتضيه مصالحه، بغض النظر عن شعاراته البراقة التي يلقيها أمام جمهوره المحب لسماع ما يحب، حتى لو كان التطبيق معاكسا بالكامل.
3- المشروع الإسرائيلي
مشروع سياسي اقتصادي ديني يُؤْمِن بفرض الواقع بقوة السلاح والتفوق التكنولوجي من جهة، ويتقن من جهة أخرى محاكاة اللغة التي تتكلم بها قوى العالم الجديد، مما يسهل قبوله وقبول مهمته خارجيا.
اقرأ لنفس الكاتب: نحن أيضا اكتشفنا المؤامرة… مع السلامة
هذا المشروع كان وما يزال لاعبا فاعلا ورئيسيا في التخطيط لما يحدث بالمنطقة، وخاصة بالدول الكبرى في المنطقة، والتي كان لديها أمل في أن تكون لاعبا إقليميا فاعلا مثل العراق وسوريا ومصر. وهو يعمل بثبات وتخطيط طويل الأمد على تقوية مشروعه والسيطرة على المنطقة، دون الخروج من حدوده الجغرافية التي أرادها لنفسه للمرحلة الحالية.
يحاكي هذا المشروع دينيا غالبية يهود العالم، كما يدعمه أيضاً تعاطف الشعوب في مختلف أنحاء العالم، من التي تؤمن بحرية الفرد والانفتاح وحقوق الانسان وحرية العقيدة وحرية التعبير. يعرف القائمون على هذا المشروع كيف يظهرون أعداءه من شعوب هذه المنطقة كعالم رجعي ورافض للمختلف عنه، وذلك من خلال دلائل ولغة وصورة إعلامية مقنعة لباقي الشعوب البعيدة التي تتابع ما يحدث بهذه المنطقة. ليس لدى القائمين على هذا المشروع أي تردد للقيام بما يلزم لتثبيت وتوسيع مشروعهم، ولو كان الثمن احتراق دول و شعوب بأكملها.
4- المشروع السعودي (تحت التشكيل و الولادة)
مشروع ديني اقتصادي سياسي بدأ يتشكل ويظهر ملامح سياساته. يعتبر هذا المشروع الأضعف أداءً، رغم ارتفاع كلفة فاتورة ولادته التي فاقت الـ 500 مليار في أول اجتماع مع حكام البيت الأبيض، كونه جاء متأخرا بالمقارنه مع المشاريع الثلاث الاخرى بعد سقوط العراق في الفوضى والحرب الأهلية.
جميع هذه المشاريع تخلو من البناء الإنساني الصحيح للدول المتحضرة، وتخلو من الأحلام الوردية التي تحلم بها الشعوب من الحرية والعدالة الاجتماعية، بما فيها شعوب هذه القوى الإقليمية الأربعة أنفسها
يُؤْمِن هذا المشروع بفرض الرأي على غرار العقلية السائدة في المنطقة (عقلية تحكم الكبير وضعف الصغير بغض النظر عن مواثيق وكينونات الدول). يدغدغ هذا المشروع عواطف غالبية الطائفة السنية في العالم، كونه يمتلك أقدس بقعة لدى المسلمين.
ابتدأ المشروع الديني الوهابي السعودي منذ بدايات الدولة السعودية الأولى، وقد نجح بشكل واسع في التأثير والسيطرة على عقليات كثير من شعوب وعقول أبناءها، وساعده بذلك تأثر مناهج الدول الإسلامية الصغيرة الإمكانيات وعقليات شعوبها، التي قصدت السعودية كمكان رزق نظرا للثروة النفطية التي تمتلكها وأصبحوا بوعي أو بدون وعي تحت تأثير الفكر الوهابي السعودي.
اقرأ أيضا: من فلسطين، عامر أبو شباب يكتب: غزة… يوم من أربع ساعات
ابتدأ المشروع السياسي السعودي الفتي مؤخرا، وبالتحديد منذ بدأ عهد الملك سلمان بن عبد العزيز، يقوم على إدارته ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. أولى أولوياته القيام بكل أنواع التحالفات في سبيل إفشال المشروع الإيراني أولا والمشروع التركي ثانيا في السيطرة على هذه المنطقة.
لا يقبل هذا المشروع الخروج السياسي عن طاعته من دول يعتبرها طبيعيا وجغرافيا دولا تابعة له. كما أن لديه الاستعداد الكامل لعقاب من يخرج عن سلم طاعته. لكن الحرب اليمنية المعقدة والأزمة القطرية التي تتم إدارتها بحكمة من قبل القطريين والملفات الخاصة بالإصلاح الديني والاجتماعي السريع والارتدادات الداخلية، هو ما يؤخر تقدم هذا المشروع أمام المشاريع الإخرى.
خلاصة الكلام، وحتى يتم تحليل الواقع بعيدا عن تجميل أو تبشيع الصورة ووضع نتائج التحليل بصورة نقاط، نصل إلى الخلاصة التالية:
1- جميع هذه المشاريع تخلو من البناء الإنساني الصحيح للدول المتحضرة، وتخلو من الأحلام الوردية التي تحلم بها الشعوب من الحرية والعدالة الاجتماعية، بما فيها شعوب هذه القوى الإقليمية الأربعة أنفسها.
لا يقبل المشروع السعودي الخروج السياسي عن طاعته من دول يعتبرها طبيعيا وجغرافيا دولا تابعة له
2- الأهداف الرئيسية لهذه المشاريع هي التوسع على حساب الشعوب الضعيفة والمسلوبة الإرادة، وتوسيع السيطرة على جغرافيا و/أو اقتصاد أكبر، حتى لو كان شعارها أحد أكبر شعارات الصالحين أو الأبطال الأسطوريين.
3- معظم هذه المشاريع لديها تواصل وتقاطع مصالح فيما بينها من جهة ومع القوى الإقليمية الكبرى من جهة أخرى؛ والخاسر الأكبر هي شعوب هذه المنطقة. بالتالي، ليس من الحكمة المراهنة على نوايا هذه الأنظمة أو الدفاع الأعمى عن أي من هذا المشاريع لخير شعب ما أو فئة ما أو دولة ما بعينها، فالمستقبل القريب سيكشف ما كان مستورا.
اقرأ أيضا: الدعوة إلى الله… سوق رائج يصنع النجوم
4- البطولات والفتوحات التي تربينا على سماعها ومشاهدتها لا توجد في أي من هذه المشاريع الأربعة، ولن نراها الا في أفلام هوليوود أو على شاشات السينما المصرية والهندية والعربية.
5- معظم الدول الأخرى غير المذكورة ضمن هذا التحليل، ومعظم قراراتها السياسية، هي رهن لنتائج صراع هذه المشاريع الأربعة، دون أن ننسى إضافة الضغط من مشاريع القوى العالمية الأخرى التي تضع أدوارا محددة لهذه الدول الأخرى، خدمة لمصالحها أو مصالح حلفائها.
6- انقلاب مزعوم في تركيا، ربيع و مظاهرات في إيران، حملة اعتقالات ملكية في السعودية، إسرائيل ورفض السلام مع الفلسطينين، القدس عاصمة لإسرائيل، صفقة القرن، روسيا وسوريا… إلخ.، لا تتجاوز كونها مانشيتات عريضة نستطيع الجزم أنها، في معظمها، خطط مرسومة بدقة ومخطط لها بإتقان، من قبل أصحاب المشاريع الأربعة، بالتنسيق أو مباركة بعض أو كل القوى الدولية الكبرى، وذلك لإبقاء مستوى التوتر في المنطقة عند حدود عالية، بهدف ضمان استمرار بيع السلاح والدواء والغذاء لتفوق اقتصاد تلك الدول الكبرى.
7- هناك شعوب كاملة قدرها أن تكون ضحية الصراعات، والمؤسف أننا أصبحنا في القرن الواحد و العشرين، ولا توجد بعد دولة فلسطينية مستقلة. الشعب الكردي الذي يفوق عدده الـ 50 مليون، ممنوع عليهم التحدث بمشروع دولة مستقلة لهم. حق المطالبة بالاحتفال بالجذور السوريانية بمختلف مذاهبها أو الأمازيغية صعب في الكثير من الحالات… لكن تغيير المعادلات والخيانات المستمرة بعد الاتفاقيات التي خذلت الشعوب لصالح أصحاب الكراسي بعد سقوط الدولة العثمانية وما تلاها من تغييرات ظالمة لمستقبل هذه الشعوب، ظلمت هذه المكونات العريقة تاريخا وحضارة.
8- الأقليات من المسيحين والدروز والعلويين والإسماعيليين والملحدين و…، باختصار، كل المسميات التي تقع خارج ما يسمى الأغلبية، عددا أو فكرا أو عقيدة، مفروض عليهم أن يقبلوا ما يفرض عليهم من قوانين أو أوامر أو خسائر بالأرواح أو الممتلكات، نتيجة هذه الصراعات، وذلك ضمانا لاستمرار سادة الحرب بالتفرد بالسلطة دون النظر لقاعدة أن الديمقراطية المزعومة تدعو لضمان حقوق الأقليات بالتوازي مع أو حتى قبل تطبيق حكم الأغلبية.
اقرأ أيضا: صراع “ولاية الفقيه”: هل يسطو خامنئي على شيعة العراق؟ خلاف ديني أم صراع سياسي؟
9- جميع هذه المشاريع يجمعها أنها تقوم على استغلال الدين كمحرك إيدلوجي للصراعات، كون معظم شعوب هذه المنطقة مجبول عقلها وعاطفتها وجيناتها بالدِّين كمسمى فقط، بالرغم أن الكثير منهم لا يطبقون تعليمات وأخلاق هذا الدين أو ذاك في ممارساتهم اليومية، مع ملاحظة أن كل مشروع من المشاريع الأربعة يقوم باستغلال الدين بطرق مختلفة.
10- المشروع الإيراني يقوم بشكل رئيسي على نظام حكم شمولي وإيدولوجيا دينية واضحة تعتمد الولي الفقيه بقيادة السيد خامنئي. المشروع التركي يقوم بشكل رئيسي على قيادة شخصية كاريزماتية قوية يقوم بها ببراعة واقتدار الرئيس أردوغان. المشروع الإسرائيلي يقوم على عقلية القلعة المغلقة أمام جيرانها في الخارج، مع إقامة دولة مؤسسات ونظام ديمقراطي حقيقي من الداخل. لغاية اليوم، مارست إسرائيل النظام من خلال عدم الاعتماد على شخص وحيد، والدليل أنه لم نسمع لليوم مصطلح انقلاب في إسرائيل إلا من خلال صناديق الاقتراع. المشروع السعودي يقوم بشكل رئيسي على حكم عائلة واحدة تتحكم بأغلب مفاصل الدولة داخليا وخارجيا. و دولة أول حفيد ملك من سلالة عبد العزيز ستكون بدايتها هذا العام على الأغلب.
بإنتظار أن نرى من سيكون المشروع الأنجح في الوصول لقمة هرم السيطرة على هذه المنطقة، سنبقى نحن الشعوب وقودا يعتاش عليه أصحاب كراسي تلك المشاريع.
ودمتم ودمنا وقودا لا خير فيه إذا لم نقف أمام قوى الشر التي لن تتوقف عن أسالة الدماء… وفاء لمشاريعهم.
اقرأ أيضا: على هامش اغتيال جمال خاشقجي: نماذج أخرى لاغتيال الصحافيين عبر العالم