“المخزن”… بين هاجس الاستمرارية والواقع التاريخي الجديد 4\4
في الجزء الرابع والأخير من هذا الملف عن “المخزن”، نتعرف على أسس الحكم التي وطّن عليها المخزن المجتمع، ضمن هدف الاستمرارية الذي دائما ما شكل هاجسه الأساس… حتى اليوم.
عرفنا منذ الجزء الأول، أن المخزن بعدما ظهر في المغرب مخزنا بالمعنى اللغوي وحسب، تطور مع الزمن ليحيل على جبي الضرائب، ثم استقر به الأمر في الأخير نظاما للحكم، لكنه… لم يرقَ إلى “الدولة” بالمعنى الذي يحيلنا إليه القاموس الأوروبي الحديث.
ويمثل السلطان في هذا النظام ما يمثله القطب للرحى، أو السارية المركزية للخيمة: به ومن أجله، تتحقق شرعية وجود المخزن… هذا الوجود الذي ينعكس عبر نوعين من الحضور؛ المادي وقد تابعناه في الجزء الثاني، والرمزي الذي تناولناه في الجزء الثالث.
وقد لاحظنا أن مجمل الدراسات المتعلقة بالمخزن، قد تناولته كمفهوم من موقع الدفاع أو موقع الهجوم، باختلاف مشاربها، فيما حاول البعض رسم صورة تاريخية محايدة عنه… وأبقت التعليق عليها حرا.
في هذا الجزء الرابع والأخير، نتعرف على أسس الحكم التي وطّن عليها المخزن المجتمع، ضمن هدف الاستمرارية الذي دائما ما شكل هاجسه الأساس… حتى اليوم.
سياسة الحذر وفرض الهيبة
في علاقته مع مختلف الفئات الاجتماعية، تميز المخزن برسم مسافة ترمي إلى إشعار كل منها بحدود مكانتها… أما فيما يخص السلطان، فقد درج وفق المؤرخ محمد جادور[1] على تقاليد تؤكد غلبة هاجسي السرية والحذر، سواء تجاه الأطر المخزنية أو الرعية.
ما يمكن أن نخلص إليه، أن الغرباء يجب أن يظلوا بمبعدة عن أسرار المخزن لهدف واحد أساسا، هو تكريس وترسيخ تعاليه.
اقرأ أيضا: هشام روزاق يكتب: من يحكم المغرب؟ … “جهات ما”
هكذا، استعمل المخزن، وفق الباحث رضوان باتو[2]، السياسة والدهاء وملازمة السرية والتكتم، كما نهج أساليب من قبيل تهجير قبائل وتوطينها في مناطق أخرى، وتجريد بعضها من السلاح، ومصادرة ممتلكاتها كإجراء وقائي.
تمكّن المصاهرة السلطان من اختراق المجموعات السكانية المستهدفة، وربط مصالحها بمصالحه… إنها وسيلة لجذب الأتباع، وتخويلهم الحلم بفرصة الترقي في السلم الاجتماعي.
مع ذلك، يقول جادور إن المخزن كان متمسكا بتفادي كل الأساليب المؤدية إلى نفور القبائل من ممارساته؛ لأنه كان على وعي تام بما يمثله ذلك من تهديد للتوازن الذي سعى دائما للحفاظ عليه.
الحقيقة أن السلطان كان متشددا في مراقبته لتجاوزات الأطر المخزنية، وضرب بيد من حديد كل من ثبت تورطه في تخطي الحدود المرسومة.
سياسة الحزم هذه تتيح للسلطان الهيبة والتفرد… وكما يقول المولى إسماعيل في ما يورده المؤرخ محمد جادور: “الشراسة في الوالي هيبة له، يخافه بسببها القريب والبعيد… وإن لم تكن في الرجل طبعا فينبغي له أن يتطبع بها، ويستعملها ليهابه الناس ويعملوا بحسابه…”.
هكذا، يعي المخزن وفق المؤرخ ذاته، أن استمراريته رهينة بإعادة إنتاج سلوكات مماثلة لركائز تأسيسه من جهة، ولممارساته وطقوسه كما هي معيشة وحاضرة في الذاكرة الجمعية، وواقع الرعية، من جهة أخرى.
اقرأ أيضا: المغرب… المقاطعة وحراك الريف! أزمة تواصل المؤسسات السياسية؟
لذلك، يضيف المؤرخ، كرس كل إمكانياته للاستبداد بالسلطة وتجديد آلياتها، بهدف أن يظل السلطان يظهر بمظهر الراعي للمجتمع، يكافئ كل من أبدى الطاعة، ويعاقب كل من حاول تخطي ما رسم له من حدود.
استأثر المخزن بكل الوسائل التي يمكن أن تشكل مصدر قوة، وحاذر من سقوطها في أيدي كل من يخل بالتوازن تجاهه؛ فهو لا يطمئن على استمراريته سوى بتجريد الآخرين من ركائز قوتهم.
من جهة أخرى، لطالما شكلت مؤسسة الزواج (المصاهرة) دعامة أساسية للحفاظ على روابط القرابة مع بعض القبائل، في إطار خلق توازنات مع تشكيلات مهمة اجتماعيا.
وتمكّن المصاهرة وفق جادور، السلطان من اختراق المجموعات السكانية المستهدفة، وربط مصالحها بمصالحه… إنها وسيلة لجذب الأتباع، وتخويلهم الحلم بفرصة الترقي في السلم الاجتماعي.
بجانب ذلك، استأثر المخزن بكل الوسائل التي يمكن أن تشكل مصدر قوة، وحاذر من سقوطها في أيدي كل من يخل بالتوازن تجاهه؛ فهو، يشير رضوان باتو، لا يطمئن على استمراريته سوى بتجريد الآخرين من ركائز قوتهم.
المشهد اليوم
يحافظ النظام السياسي في المغرب إلى اليوم على سماته البنيوية التي لازمته لقرون عديدة… ذلك ما يؤكد الباحث يحيى بولحية[3]؛ فالسلطان/الملك يعد حجر الزاوية في الممارسة السياسية، فيما تتحلق حوله الكتل السياسية التي لا تفعل شيئا إلا بتوجيهاته.
أما المخزن، فيواصل، وفق ذات الباحث، اعتماده على تعدد الشركاء السياسيين، إذ يتيح له ذلك القدرة على المناورة واستغلال التناقضات، ما يجعل منه دائما فاعلا سياسيا متعاليا على جميع المكونات السياسية.
اقرأ أيضا: موقع الدين في نظام الحكم بالمغرب: إمارة المؤمنين، حكاية البدايات..
هكذا، بوسعنا في ختام هذا الملف الإقرار بأن المغرب ما زال يتوفر على نظام حكم متفرد خاص به، وإن أرخى العصر بواقع جديد…
يحافظ النظام السياسي في المغرب إلى اليوم على سماته البنيوية التي لازمته لقرون عديدة؛ فالسلطان/الملك يعد حجر الزاوية في الممارسة السياسية، فيما تتحلق حوله الكتل السياسية التي لا تفعل شيئا إلا بتوجيهاته… أما المخزن، فيواصل اعتماده على تعدد الشركاء السياسيين، إذ يتيح له ذلك القدرة على المناورة واستغلال التناقضات، ما يجعل منه دائما فاعلا سياسيا متعاليا على جميع المكونات السياسية.
صحيح أنه كان عتيقا وفي حالة صراع وسلم مع بعض القبائل لأسباب منها الجبائية والأمنية؛ لكنه، وفق بولحية، كان موجودا ويمارس سلطته المادية والرمزية كما مثل الجهة الوحيدة التي تكفلت بتدابير الإصلاح.
وإذا كنا اليوم نتحدث عن عجز الدولة والأحزاب والنفور من المشاركة السياسية، فإن الخلل وفق ذات الباحث، يبدو أنه موجود وكامن في عمقنا التاريخي الطويل… في نمط العلاقة التي تطورت بين الدولة والمجتمع.
هكذا إذن، نحن بحاجة إلى حفريات عميقة في تاريخنا وذاكرتنا، يؤكد الباحث، لالتقاط الإيجابي في علاقة الدولة بالمجتمع والبحث عن أنماط التواصل الكفيلة بترسيخ مفهوم الدولة المواطنة.
… نحن بحاجة اليوم، لفهم جوهر الإشكال، كي نبحث، ليس عن الجواب… ولكن أساسا، كي نطرح السؤال الصحيح…
وحينها فقط… يمكن أن نبدأ رحلة البحث عن الأجوبة الصحيحة.
لقراءة الجزء الأول: “المخزن”… تاريخ طويل من الأسئلة! (الجزء الأول)
لقراءة الجزء الثاني: “المخزن”… كيف كان يقر سلطته على المغرب؟ وكيف كان يوازن العلاقة بين السلطان والرعايا؟ (الجزء الثاني)
لقراءة الجزء الثالث: “المخزن”: استخدام “الرمزية”… الجانب الخفي والأهم لممارسة السلطة وترسيخها (الجزء الثالث)