البيمارستانات … مستشفيات العرب في صدر الإسلام! 1\3
صار البيمارستان مستشفى وصيدلية ومعهدا لتدريس الطب، بل ولمزاولة التطبيب، بات لزاما على المرء أن يجاز فيه، كما وصار للبيمارستانات محتسبون يقفون على حسن سيرها
ليس بجديد القول إن العرب كانوا من أوائل البارعين في علم الطب، لكن الأمر لم يمض إلى المأسسة إلا عند ظهور الإسلام، وقد أسهمت في ذلك الحروب وحاجة الناس إلى التطبيب وأمور أخرى! هكذا، أحدثت البيمارستانات… هذه المنشآت التي كانت تُشيد صدقة، ولا تقتصر على مداواة المرضى وحسب، إنما كانت أيضا معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب.
في هذا الملف، اعتمادا على كتاب “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” لمؤلفه الطبيب والمؤرخ المصري، أحمد عيسى بك، نعود بكم إلى “مستشفيات” المسلمين قديما، على أن نخصص جزءا خاصا بعد ذلك بالبيمارستانات التي عرفها المغرب يوما ما.
يقول الأندلسي في “طبقات الأمم”، إن “العرب في صدر الإسلام لم تُعْنَ بشيء من العلوم إلا بلغتها وعرفت أحكام شريعتها حاشا علوم الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرا[1] إليها”.
قولٌ يؤكده الذهبي في “تاريخ الإسلام”، حيث كتب أن عروة بن الزبير[2] قال: “ما رأيت أعلمَ بالطب من عائشة فقلت: يا خالة، من أين تعلمت الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه”.
اقرأ أيضا: أسماء بن العربي تكتب: أنت مغربي؟ لا تمرض من فضلك
منذ كانت البيمَارَسْتانات لدى العرب، وعلى امتداد زمن طويل، عرفت بكونها مستشفيات عامة… مستشفيات تعالج فيها كل الأمراض، باطنية كانت أو جراحية أو رمدية أو عقلية. وقد ظلت على هذا النحو، حتى حل بها ما حل من كوارث، فدار عليها الزمان وصارت خالية إلا من المجانين.
إجمالا، كان في العرب كثير من المتطببين، بعضهم مزج بين الطب والرقى، وبعضهم الآخر تعلمه في فارس، أو في بلاد مجاورة للجزيرة العربية، فعاد إليها لاحقا متمكنا من التطبيب.
منهم مثلا، الحارث بن كلدة الثقفي، وابنه النضر بن الحارث، وابن أبي رمثة التميمي، وأيضا نساء، كزينب طبيبة بني أود وأم عطية الأنصارية.
منذ كانت البيمَارَسْتانات لدى العرب، وعلى امتداد زمن طويل، عرفت بكونها مستشفيات عامة… مستشفيات تعالج فيها كل الأمراض، باطنية كانت أو جراحية أو رمدية أو عقلية. وقد ظلت على هذا النحو، حتى حل بها ما حل من كوارث، فدار عليها الزمان وصارت خالية إلا من المجانين.
والبِيمَارَسْتَان كلمة فارسية مُركّبةٌ من مفردتين: “بيمار” وتعني مريض، و”ستان” التي تعني مكان أو دار… بهذا يكون المرادف القريب من “البيمارستان” في اللغة العربية، هو “دار المرضى”. ثمة من اختصر الكلمة لاحقا واقتصر على “مارستان”.
أول بيمارستان في الإسلام
يروي ابن اسحاق في “سيرة رسول الله”، أن الأخير في يوم الخندق “جعل سعد بن معاذ في خيمة بمسجده لامرأة مِن أسلم، يقال لها رفيدة، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضبعة من المسلمين، وكان الرسول قد قال لقومه حين أصابه (سعد) السهم بخندق: اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب”.
نفهم من هذه الرواية، إذن، أن الرسول كان أول من أمر بإنشاء مستشفى حربي متنقل.
اقرأ أيضا: التاريخ الإسلامي لإسبانيا… من حضارة غير مسبوقة إلى محنة الدم والدين والطرد 1\10
أما أول من بنى البيمارستان في الإسلام، فوفق كتاب “تاريخ البيمارستانات في الإسلام” عن تقي الدين المقريزي، كان الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، عام 88 للهجرة (706 للميلاد). وضع فيه أطباء وخصص لهم أجرا عن ذلك، كما أمر بحبس المُجذمين لئلا يخرجوا، وأجرى لهم أيضا، إضافة إلى العميان، الأرزاق.
في ذلك يقول الطبري، في “تاريخ الرسل والملوك”: “كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلفائهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين وقال: “لا تسألوا الناس”، وأعطى كل مُقعد خادما وكل ضرير قائدا”.
أنواع البيمارستانات
ثمة نوعان وحسب في الحقيقة، هما البيمارستان الثابت، وذاك المحمول.
يقصد بالثابت منها ما كان بناءً في مكان ما، فهو بذلك ثابت لا ينتقل منها. هذا النوع وفق “تاريخ البيمارستانت في الإسلام” كان منتشرا في الكثير من البلدان الإسلامية، بخاصة في عواصمها الكبرى كدمشق وبغداد والقاهرة، وسنأتي في الجزء الثالث من هذا الملف، على ذكر نماذج تاريخية من المغرب.
كان البيمارستان المحمول معروفا لدى خلفاء الإسلام وملوكهم وسلاطينهم وأطبائهم، ويرجح وفق المؤرخ أحمد عيسى بك، أن يكونوا أول من أنشأه عامة.
أما البيمارستان المحمول، كما يدل على ذلك اسمه، فهو الذي يُنقل من مكان إلى آخر، تبعا لظروف الأمراض والأوبئة وانتشارها، وأيضا وفقا للحروب.
والبيمارستان المحمول هذا، كان عبارة عن مستشفى مجهز بجميع ما يلزم للمرضى والمداواة، من أدوات وأدوية وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، وكل ما يعين على ترفيه الحال على المرضى والعجزة والمزمنين والمسجونين، ينقل من بلد إلى آخر من البلدان الخالية من بيمارستانات ثابتة، أو التي يظهر فيها وباء أو مرض معد.
كان هذا النوع معروفا لدى خلفاء الإسلام وملوكهم وسلاطينهم وأطبائهم، ويرجح وفق المؤرخ أحمد عيسى بك، أن يكونوا أول من أنشأه عامة.
اقرأ أيضا: هذه حكايات 9 من أشهر الاغتيالات السياسية في صدر الإسلام… 3/1
أكثر من ذلك، يبدو أنهم كانوا جد حريصين عليه. مما يروى عن ذلك، أن الوزير العباسي علي بن عيسى بن الجراح، أرسل إلى سنان بن ثابت في وقت كثرت فيه الأمراض، وقد كان الأخير يتقلد البيمارستانات ببغداد، (أرسل) يقول له:
“فكرت مد الله في عمرك في أمر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض، وهم معوقون عن التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم، فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزورات[3]، وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس ويعالجوا من فيها من المرضى، ويريحوا عللهم فيما يصفونه لهم إن شاء الله تعالى”.
في صيرورة تنظيم طويلة، صار البيمارستان، مستشفى وصيدلية ومعهدا لتدريس الطب، بل ولمزاولة التطبيب، بات لزاما على المرء أن يجاز فيه، كما وصار للبيمارستانات محتسبون يقفون على حسن سيرها… بعض من تفاصيل ذلك، تقرؤونها في الجزء الثاني من هذا الملف.
لقراءة الجزء الثاني: قديما في الدول الإسلامية: البيمارستان… مستشفىً وصيدليةٌ ومعهدٌ لتدريس الطب بنظام عملٍ صارم! 2\3
لقراءة الجزء الثالث: هذه بعض من أهم البيمارستانات التي عرفها المغرب يوما ما… 3/3