من نيويورك، هشام الرميلي يكتب: هكذا أنقذني الشعر والحب!
كانت كرة القدم هي المدخل الذي نفذ منه الإسلاميون في بداية التسعينيات، ليقوموا بعمليات إستقطاب كبيرة جدا بين أبناء الأحياء الشعبية؛ ففي أحياء تشكل فيها الكرة عقيدة ثانية، لم يكن …
كانت كرة القدم هي المدخل الذي نفذ منه الإسلاميون في بداية التسعينيات، ليقوموا بعمليات إستقطاب كبيرة جدا بين أبناء الأحياء الشعبية؛ ففي أحياء تشكل فيها الكرة عقيدة ثانية، لم يكن هناك ما هو أكثر إغراء من دحرجة الكرة، وخوض المباريات.
أخد الغرباء في البداية يعطوننا دروسا في الدين والسيرة النبوية، ويأمروننا بالصلاة والاستقامة، ويؤكدون على الإلتزام بتوجيهات الأمير وطاعته.
كانت شبيبة الحي بحاجة لمن يؤطرها ويوفر لها إمكانيات للتعبير عن الذات ويواكب نشأتها. لذلك، لم يمر وقت طويل حتى إلتحق بنا معظم أبناء الحي والأحياء المجاورة، فقسمنا أمير الجماعة إلى فرق وجعل على رأس كل واحدة منها أميرا.
اقرأ لنفس الكاتب: من نيويورك. هشام الرميلي يكتب: …إنهم يحتفون بالموت
بدأ يتردد علينا بعض الغرباء. وبالرغم من أننا كنا نلتقيهم لأول مرة، فقد كانوا يعانقوننا عناق الإخوة، ويبادرونا بإبتسامات مريحة، أثارت لدينا إحساسا بالدعة والطمأنينة، وبددت كل توجس. كانت تبدو عليهم علامات الوقار والالتزام، وكان أمير جماعتنا يجلهم.
نظم لنا “أصحاب اللحاية” كما كنا نسميهم أنشطة متعددة: مباريات، تمارين رياضية، رحلات، ولقاءات تعارفية، وأعطونا بدلا رياضية. أصبح لنا لقاء أسبوعي في أحد المنازل بالحي، ولقاءات قبل التمارين.
أخد الغرباء في البداية يعطوننا دروسا في الدين والسيرة النبوية، ويأمروننا بالصلاة والاستقامة، ويؤكدون على الإلتزام بتوجيهات الأمير وطاعته؛ حفاظا على الجماعة ورسالتها في تربية الناشئة، وردها إلى الطريق المستقيم، بعيدا عما يعيشه المجتمع من تفسح وانحلال؛ وحياة الجاهلية…
بعد ذلك، حرص الغرباء على توطيد علاقتهم بنا، فأخدنا نلتقي بهم خارج الحي. أخدونا إلى مساجد أخرى، يقولون إن فيها شيوخا يعرفون صحيح الدين، ولايبيعون أنفسهم للحاكم غرض الحياة الدنيا ومتاعها.
لم أفكر طويلا… لم يكن قرارا صعبا… كان واضحا في رأسي. غير ملتبس… سأترك الكرة وسأحتفظ بقصائدي
في أحاديثهم التي تدور بينهم، كانوا يتحدثون عن الحرب الأهلية المستعرة في الجزائر، ويتداولون أسماء مثل عباس مدني، وعلي بلحاج، ويناقشون مواضيع كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبراء والولاء، والحاكمية… كانوا يتحدثون بإجلال كبير عن ابن تيمية، وابن باز، وابن عثيمين، والألباني، وسيد قطب؛ وكانوا يحكون لنا بحماس قصصا عن بطولات المجاهدين الأفغان.
لم تكن الكرة هي غوايتي الوحيدة، فقد كان يزاحمها إرهاص لغواية أخرى، ستسثأتر بكل إهتمامي، وتدحر كل قريحة أخرى.
كنت أكتب الخواطر والمحاولات الشعرية. وككل الكتابات الأولى، كانت جلها عن الحب والهيام، والحبيبة الفاتنة، والقلب المنكسر، بل كانت لي حتى أشعار من غزل ماجن.. وكأي مبتدئ، كنت أقرأ محاولاتي على أبناء الحي، وكان أمير فرقتي واحدا منهم.
وكما هو متوقع من أمير فرقة في تنظيم هرمي، فقد هرع إلى أمير الجماعة يخبره بجريرتي.
اقرأ لنفس الكاتب: حين سقطت الراية
كنت أتهيأ للتمارين حين ناداني أمير الجماعة. إنتحينا إلى جانب بعيد، أخبرني أن ما أكتبه هو رجس من عمل الشيطان، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون، وأنه لئن امتلأ جوفي قيحا خير من أن يمتلئ بهذا الهراء، وأنه يدعوني إن أردت البقاء معهم، إلى ترك هذا العمل، الذي يزين لي الشيطان إقترافه.
عدت إلى البيت. جعلت أنظر إلى دفتري الذي أدون فيه قصائدي وأفكر في ملهمتي. كيف لي أن أقلع عن الشعر، وأنا الذي قلت لها إنها فكرة ما أكتبه، وإنها مبتدأ شعري ومنتهاه…؟ أتصدق حبي بعد الآن؟ أترسل لي نفس نظرات إعجابها، كما كانت تفعل وهي تقرأ قصائدي؟ ثم فكرت في الأصدقاء وهم يتراكضون خلف الكرة… وفي لقاءات الإخوة… والغرباء “الطيبين” وأصدقائي الجدد… كيف لي أن أغادر كل ذلك؟
كنت أتهيأ للتمارين حين ناداني أمير الجماعة. إنتحينا إلى جانب بعيد، أخبرني أن ما أكتبه هو رجس من عمل الشيطان، وأن الشعراء يتبعهم الغاوون، وأنه لئن امتلأ جوفي قيحا خير من أن يمتلئ بهذا الهراء، وأنه يدعوني إن أردت البقاء معهم، إلى ترك هذا العمل، الذي يزين لي الشيطان إقترافه.
لم أفكر طويلا… لم يكن قرارا صعبا… كان واضحا في رأسي. غير ملتبس… سأترك الكرة وسأحتفظ بقصائدي، وسأكتب أكثر عن حبيبتي، فأنا لا أستطيع أن أعيش بدون طاقة إضافية تشحنني بها نظرات إعجابها.
أخدت المسافة تنأى بيني وبين الأصحاب. لم نعد على سابق عهدنا، كما كنا قبل الالتحاق بالجماعة. بدأ أصدقائي يتغيرون، يجتمعون فقط بينهم، ولا يخالطون البقية من أبناء الحي. يتبادلون كتبا وأشرطة كلها قادمة من المشرق. لا يصافحون نساء الحي، ولايكلمون فتياته، ولايتسامرون ليلا كما كانوا.
تخلوا عن سراويل الجينز التي كانوا يحبون، وتركوا تقليعات الموضة التي كانوا يواكبون… ارتدوا سراوبل قصيرة وقمصانا طويلة ونعالا جلدية، كما الأفغان.
تسوكوا بأعواد الأرك، وتضوعوا بالمسك… وأصبحنا في نظرهم أغرارا هزمنا الشيطان… فما إنفكوا يدعون لنا بالتوبة والهداية!
مضت أعوام، وكان عشقي وولعي بالشعر يزداد. أصابتني لعنة أخرى، هي حب الفلسفة والفكر.. وكنت كلما قرأت أكثر، صارت المسافة أكبر، واتسعت الهوة، وتباعدت الأفكار…
حتى أصبح اللقاء مستحيلا!
والحب مستحيلا!
فتفرق كل منا في ناحية.. وقاطعني الإخوة الاصدقاء… وتصرفت بنا الأيام.
كانوا يرونني ذاهبا إلى الهلاك، وكنت أراهم حتما يسيرون في اتجاه الظلام.. لم تنقشع بصيرة بعضهم، ولم يقوموا بمراجعاتهم، إلا بعد أن انتهوا مخدوعين من قبل جماعات، أغوتهم صغارا بمداعبة الكرة، وانتهت بهم شبابا في أحضان فكر ألقى على أبصارهم وأفئدتهم غشاوة، فلم يعودوا يعقلون، حتى وجدوا أنفسهم في حالة شرود، خارج المجتمع وخارج معترك الإنسانية وقيمها.
اقرأ لنفس الكاتب: بائعة الكبريت وراعي الغنم
قصة جميلة جدا تصلح أن تكون سيناريو لمسلسل الجماعة ٣
نعم جاءت ءاية في القرءان الكريم تقول. والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترى أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالايفعلون إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً.
ولهذا كان حسان إبن تابت شاعر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.