معركة الهري: المفتاح السحري… لأول هزيمة لفرنسا بإفريقيا! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

معركة الهري: المفتاح السحري… لأول هزيمة لفرنسا بإفريقيا! 2\2

يقول المارشال ليوطي في برقيته لحكومته عن تفاصيل معركة الهري: لم يسبق لفرنسا في تاريخها العسكري أن منيت بمثل هذا التدمير في قوة هامة من قواتها، وخسرت مثل هذا العدد من ضباطها، وأضاعت مثل هذا القدر الكبير من عتادها.

رأينا في الجزء الأول الأسباب التي دفعت فرنسا إلى تكريس جهودها لاحتلال خنيفرة، عاصمة زيان، باعتبارها مفتاحاً لـ “المغرب النافع”، وتمكنها في الأخير من غزو المدينة.

في هذا الجزء، نتابع كيف ساهم الحصار الذي ضربته المقاومة على المحميات الفرنسية في خنيفرة،  في الدفع بالقيادة الفرنسية إلى كتابة هزيمتها بأيديها.

القوات الفرنسية الموجودة نواحي زيان، حاولت أن تفكّ الحصار المطبّق على خنيفرة؛ لكن، عبر اختطاف قائد المقاومة: موحا أوحموالزياني.

عانى الجنود الفرنسيون من العياء ومن قسوة الأوضاع، وأرهقتهم حياة الخنادق. لذلك، سعى قائدهم لافيردور Laverdure إلى تخليصهم، حتى لو دفعه ذلك إلى خرق التعليمات المقدمة من المقيم العام الفرنسي.

الرأي العسكري الواحد: أصل “الكارثة”

لم يجد لا فيردور بدًّا من مهاجمة المقاومة الزيانية، ولو أنّ المقيم العام والسلطات الفرنسية كلّها، أكّدت على ضرورة حفاظ عسكر خنيفرة على مركز الدفاع وحسب.

رأى القائد أنّ حوالي ألفي رجل، مدججين بأسلحة فتاكة تحت تصرّفه، تتضور جوعا، وتتعرّض لأمراض مختلفة، تفتك بهم.

تزامناً مع ذلك، وفي بداية خريف 1914، تشير المصادر إلى أن موحا وحمو، نزل مع عشيرته وقبائله من الجبال التي بدأت تكسوها الثلوج، وخيم في ملتقى نهري سرو وشبوكة بقرية الهري.

اعتبرت القوات الفرنسية الأمر تحدّ من قائد المقاومة الزيانية، واعتقد القائد أنّ اقتراب قيادة المقاومة إلى ما يدنو عن الخمسة عشر كيلومتراً، هو إشارة إلى أنّ هذه القيادة باتت لقمة سائغة للجيوش الفرنسية المرابطة بخنيفرة.

زاده ذلك حماساً لتنفيذ خطّته، مدعوماً بمخبرين اثنين من رجال القائد موحا وحمو، وضعا خدماتهما رهن الاستعمار.

المراجع تقول إن الشّخصين ما هُما سِوى عمر وأخوه؛ وهما ابنا أخت موحا وحمو، من قبيلة أيت باجي، إحدى بطون آیت حركات. وتذهبُ ذاتُ المراجع إلى أنهما هربا نحو قوات الجيش الفرنسي خوفاً من العقاب، على إثر قيامهما بسرقة موصوفة.

قدّما للجيش الفرنسي كل ما يحتاجه من معلومات، عن تفكّك اللحمة القبلية في عُقر المقاومة. فضلاً عن أعداد المقاومين والفرسان والعتاد الذي أخذ يتضَاءل.

حينها، تصلّبت عزيمة لافيردور وسعى لإقناع رؤسائه ومن هم أعلى منه هرميًّا، أن استراتيجية الدّفاع لا يمكن الركون إليها طويلاً، سيما أمام مقاومين لا يتراجعون، ومستعدّون دوماً للقتال.

دفع ذلك ليوطي إلى زيارة خنيفرة بتاريخ 5 أكتوبر 1914 بمعية الجنرال هنريس، “للحد من حماس الكولونيل لافيردور من جهة، ومن جهة أخرى لتهنئة الجنود على ما بذلوه ويبذلونه في الدفاع عما يسميه الحصن المتقدم لاحتلالنا ضد الجموع البربرية العدوانية”.

ظفر موحا وحمو، الستيني وقتها، بمولود جديد، وأقام احتفالا لذلك، غير عابئ بوجود المستعمر وجيوشه في الأرجاء، وهو ما أثار حنق لافيردور، بحسب عديد من المصادر الفرنسية التي أرّخت للواقعة.

جاء في كتاب J.Le Prévost ما يؤكد ذلك حيثُ يقول، كما ينقله عنه محمد بلحسن: “الصخب الذي أحدثه الزيانيون غير مكترثين بمن حولهم – هو الذي أثار سخط الكولونيل ودفعه للانتقام من موحا وحمو”.

البداية… الحرب أفقاً! 

في يوم 12 نونبر، على الساعة التاسعة ليلا – دعا الكولونيل لافيردور رؤساء المصالح وكبار الضباط، وأخبرهم بأنه يعتزمُ تنفيذ غارة على مخيم موحا وحمو بقرية لهري. أوضح لهم أن المبتغى هو اختطاف القائد الزياني ومساعديه الأقربين.

كان الجيش الفرنسي، الذي تحرّك لمهاجمة قرية الهري يوم 13 نونبر، تقول المصادر، يتكون من 7 سرايا، وقطعتين من مدفعية 75 مم و65 مم (جبلية) وفصيلتين من الرشاشات، ومفرزتين، وفرق من الرماة الجزائريين، والخيالة، والمخازنية.

تعود أصول تواجد هذا الجيش بالمغرب إلى بدايات القرن العشرين، وبداية تشكّل طموحات احتلال المملكة المغربية. يعني ذلك أنه جيش نظامي مدرّب على القتال في الخصوصية الجغرافية المغربية.

كان يؤطره ضباط ذوو رتب عالية، نذكر منهم على الخصوص الكومندارین: كولونا دي ليكا Colonna De Lecca وفاجس Fages وكلّ من القبطانین: بابيون Papillon رئيس الأركان وقائد سلاح الفرسان، وراكت برانكاز Ract Brancaz، قائد المشاة ورئيس مصلحة الإستخبارات.

المجموع المشارك في الحرب على زيان، في المحصلة، كان  يشمل زهاء 1800 رجل و60 ضابطاً، درسوا في الكليات الحربية وتدربوا على الحرب في إفريقيا، ويقودهم الكولونيل Laverdure الذي ينتمي لسلاح المشاة.

على الجهة المقابلة، لم يكن للمقاومة جيشٌ نظاميّ، بالمعنی العسكري للكلمة. كلّ ما توفّر للزيانيين، مجموعات من المتطوعين، ينحدرون من مختلف القبائل الزيانية خاصة، “وعددهم غير قار، فهو يزيد عند ما يفرغ الناس من جمع محصولاتهم الزراعية، وينقص عندما يقبل موسم الحصاد، أو عندما تقل التموينات”، يقول المؤرّخ محمد بلحسن.

أمّا عن عدد الجنود الذين شاركوا في المعركة، فهو غير محدد بشكل دقيق إلى اليوم. لكنّ الرواية الشفهية أكّدت أنّهم كانوا فرساناً، ويتقنون ركوب الخيل جيداً لأسباب تاريخية محضة، وكانت الفروسية عاملاً أساسًا في تفوّقهم.

في ظلام حالك، ودون مصابيح، غادر الجيش الفرنسي مدينة خنيفرة حوالي الساعة الثالثة صباحا من ليلة 13 نونبر 1914.

توزّعت المجموعات من كلّ الجهات لمحاصرة مخيّم موحا وحمو. سكان المخيم من الزيانيين كانوا، حينها، في سبات عميق، بينما صمتٌ رهيبٌ يطبّق على المكان.

كان المخيم – عندما داهمته القوات الفرنسية – يتكون من خمسة دواوير، من خيمة القائد الزياني، وخيام أتباعه المنصوبة على هضبة بين سهل تومليلين والطريق المؤدية إلى قرية لقباب. أما الدواوير الأربعة الأخرى، فكانت موزعة على ضفتي نهر شبوكة الذي غدت مسالكه صعبة بسبب ارتفاع منسوب المياه.

على حين غرّة، بدأ الهجوم على المخيّم. وجد الزيانيون أنفسهم، فجأة، أهدافاً للقذائف والمدفعيات. ارتفع منسوب الرعب في المكان، وبدأ صراخ الأطفال وعويل النساء في القرية يشتدّ، والفرنسيون يواصلون الهجوم، وسكان المخيم يهربون في كل الجهات، تاركين خلفهم متاعهم وممتلكاتهم.

وسط الحرب والفوضى، تمكّن الزياني من النجاة من هذه العملية التي تستهدفه، حصراً. بل تقول الرواية الشفوية إنه نجا بأعجوبة.

امتطى جواده بسرعة فائقة، بمساعدة ولديه باعدي وبوعزة، اللذين ما أن أحسا بالخطر يهدد والدهما، حتى أسرعا نحو مربط الخيل ورفعاه على صهوة جواده متجها نحو الجنوب… ليختفي في منعرجات هضبة مزكوشن.

اعتقد الجيش الفرنسي أنّ المعركة حسمت، وأن المقاومة الزيانية اندحرت، وأن موحا وحمو بقي وحيداً بعد كل الخسائر البشرية، التي تكبّدها في المخيم.

لكنّ الواقع أنّ الكولونيل لافيردور حاول أن يقلب الصفحة، دون أن يقرأ السّطر الأخير من الحرب.

بمجرّد أن اقتحمت الجيوش الفرنسية شعاب الهري وأوديتها، حتى خرج موحا وحمو من مخبئه في هضبة مزكوشن وعاد إلى ساحة القتال.

قبل ذلك بقليل، بادر الرقاصون لإشعار القبائل الأطلسية بالخطر الداهم، عبر إشعال مواقيد على المرتفعات، هي عند هؤلاء الأمازيغ أشبه ما تكون بناقوس الخطر وبيانا بالحرب… كما استنفرها دويّ المدافع، فتركت الجبل ونزلت لتقاتل في الميدان.

بدأ المتطوعون من القبائل المجاورة يلجون أرض المعركة من كلّ فجّ، لمساعدة زيان، قادمين من وادي سرو القريب، ومن منحدرات هضبة مزگوشن وتابویشت، وشرقي الهري، عبر أودية بوزقور وأروگو.

كان رد المقاومة عنيفاً وأشد بأسًا، حيث زاد عدد المقاومين، بعد انضمام سائر القبائل الزيانية من اشقيرن، آيت إسحاق، تسكارت، آيت احند، آيت يحيى، آيت نوح، آيت بومزوغ، آيت خويا، آيت شارط وآيت بويشي

تم استعمال كل أساليب القتال من بنادق وخناجر وفؤوس، وتحمست جل هذه القبائل لمواجهة العدو للثأر لنفسها ولزعيم المقاومة موحى وحمو الزياني، وأبانت عن روح قتالية عالية كبدت المستعمر الفرنسي أشد الخسائر.

المجموعات الحربية الثلاثة أصبحت محاصرة، وتعرّض قوّادها للهجُوم وجرحوا، فلم تفلح أي مجموعة من إغاثة الأخرى أو إسعافها… حتى لقي الكولونيل لافيردور حتفه في المعركة.

وجد الجيش الفرنسي نفسه ينهار بالكامل، وانهزم شر هزيمة. أصبح جثثا من القتلى والجرحى، مبعثرة في أرض الهري الصغيرة. أرض صغيرة بنصر كبير.

قال المرشال ليوطي في برقيته لحكومته، يوردها محمد بلحسن في كتابه: لم يسبق لفرنسا في تاريخها العسكري أن منيت بمثل هذا التدمير في قوة هامة من قواتها، وخسرت مثل هذا العدد من ضباطها، وأضاعت مثل هذا القدر الكبير من عتادها.

أما الجنرال گیوم، فيضيف المؤلف أنه قدّم معطيات عن الخسائر مفادها: من مجموع 1232 جندي و43 ضابطاً التي كانت السرية تتكون منها، قتل 33 ضابطا و590 جنديا، وجرح 176 رجلا منهم 5 ضباط… من ضمن الثلاثة والأربعين ضابطا الذين شاركوا في المعركة، لم يسلم إلا خمسة، كان من بينهم أربعة فرسان، ولم يسترجع من الجثث إلا أربعين جثة، حملت إلى خنيفرة. هكذا، استولى المتمردون على جميع المدافع وجميع الرشاشات وعدد كبير من البنادق.

لم تقف الخسائر في صفوف المستعمر عند هذا الحد، بل تفاقمت بعدما قام موحى وحمو الزياني في 16 نونبر 1914، أي بعد مرور ثلاثة أيام على معركة الهري، بتصديه بفرقة مكونة من 3 آلاف مجاهد لزحف العقيد “دوكليسيس”.

هذه الفرقة كانت قادمة من تادلة لنجدة وإغاثة ما تبقى من الجنود المقيمين بخنيفرة، لكنّ المقاومة تلقّفتها بغتةً لتكبّدها خسائراً فادحة في الأرواح والعتاد مجدداً.

في النهاية…

لقد حقّ لمعركة الهري أن توصف بكونها من أكبر المقابر العارية لقوات الاحتلال الفرنسي. إنها معركة مهمّة وفريدة، لها كثيرٌ من الحظّ التاريخي؛ أوّلا لأنّها دُوّنت، وثانياً لأنها وصلت إلينا بوجهَات النّظر المختلفة.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *