العنف المنزلي في القرون الوسطى: كيف منحت الأعراف “الأوروبية” للزوج الحقّ في تعنيف شريكته؟ 1 - Marayana - مرايانا
×
×

العنف المنزلي في القرون الوسطى: كيف منحت الأعراف “الأوروبية” للزوج الحقّ في تعنيف شريكته؟ 1\2

“رجل بنظرات حادة، ذراعه مرفوعة، ويمسك باليد الأخرى امرأة من شعرها وهي مستلقية على الأرض؛ وكلّ هذا يحدث أمام أعين جيرانه اللامبالية”.

هذا المشهد ليس صناعة سينمائية، وإنما مجرد مقتطف وارد في رواية فرنسية نشرت في القرن التاسع عشر، للفرنسيين غيوم دي لوريس وجان دي ميونغ. عنوان الرواية هو : Roman de la Rose.

لوموند الفرنسية تنقل المشهد في ملفها الصحافي عن العنف المنزلي، لتبرز مشهدا حيًّا، ولو متخيَّلاً، من ما عانته المرأة من “إذلال” خلال العصور الوسطى في أوروبا. فكيف سمح المجتمع الأوروبي القديم بتعنيف المرأة واعتبرها جزءا من الأعراف؟

العنف باسم “التصحيح”؟

في الملف، ترى لوموند الفرنسية أنّ كلّ ما يشهده العالم من إدانات اليوم بسبب العنف ضد المرأة، كان في العصور الوسطى شيئا مقبولاً وروتينيا. المجتمع حينها، كان يعدّ ضرب الزوجة جزءا متأصلا في الأعراف القديمة. كان العنف وقتها يستمد “شرعيته” من عرف يطلق عليه “واجب التصحيح”: (Devoir de correction)..

هذا العرف، منح للزوج الحقّ الكامل في تعنيف زوجته إلى غاية القرن التاسع عشر، إذ كان المجتمع حينها منظما وفقا لممارسات ذكورية راسخة. هذه التصورات كانت تعتبر الأب ربّا للأسرة، وله كلّ الصّلاحية في “تصحيح” الأوضاع، ولو بالعنف.

“واجب التصحيح” هذا خلق نوعا من التسامح المجتمعي مع العنف المنزلي، غير أنه في ذات الوقت أفسح المجال، بعد قرن ونصف، لإدانة شاملة للعنف. هذه الإدانة تعتبر العنف الأسريّ مشكلاً أخلاقيّا واجتماعيّا وسياسيّا وله حمولة إجرامية أيضا.

المؤرخة إليزابيث لوسيت، مسؤولة الأبحاث في “المركز الوطني للأبحاث العلمية” CNRS، ترجع هذا التحول إلى ثلاثة أسباب جوهرية عجّلت التغيير، على مستوى الذهنيات ابتداءً، وتتعلق إجمالاً بالتحدي المتزايد للعنف الجسدي داخل الأسرة، والشرعية المتزايدة لتدخل الدولة في المجال الخاص وتقنين ما يدور في فلك الأسرة.

وبالطبع، الظهور التدريجي للمساواة بين الجنسين. هذه الأسباب، كانت محركا حاسما لتغيير الطريقة التي ينظر بها الإنسان “الأوروبيّ”، بدءاً من العصور الوسطى، للعنف المنزليّ.

لذلك، تعتبر المؤرخة فيكتوريا فانو أنّه، من خلال تغيير التسلسل الهرمي للقيم المشتركة، جرى تحجيم التسامح مع “العنف” تدريجيا. هكذا، تبدّل الخطاب السياسي تجاه المسألة وتغيرت النظم القضائية بشأنها أيضا.

لكن المؤرخة ترى، أيضا، أنه خلافا لما قد نعتقده، فإن اعتبار الضرب الموجه للمرأة من شريكها عنفا، ليس شيئا ثابتا تاريخيا، وإنما هو ثمرة عمل جماعي استغرق وقتا طويلا للبناء. هذا العمل لم يبدأ طبعا في العصور الوسطى، بل في ما تلاها من تنوير. فلماذا لم يبدأ؟

تجيب الباحثة الفرنسية إليزابيث لوسيت بأنّ ذلك راجع إلى هيمنة عرف “واجب التصحيح”، الذي ظلّ حينها ملقيا على عاتق الزوج. هذا التصحيح لا يشمل الزوجة حصرا، وإنما يكفل للزوج/الأب تعنيف كلّ من يتشارك معه الفضاء المنزلي، بما في ذلك الأبناء والخدم أيضا.

الوحشية، بهذا المعنى، كانت أمرا عاديا ومعترفا به خلال فترة العصور الوسطى، فلم يكن ممكنا أن يتم تصور التعليم بدون عنف: ضد الأطفال وضد النساء.

هذه الشرائح اعتبرت “قاصرة”، والزوج/الأب له كامل الحقّ في تصحيح سلوكاتهم وإعادتهم إلى ما كان يعتبر طريقا صحيحا وفق تصورات ذلك العصر. فإذا لم يعاقب زوجته على سوء سلوكها، فإنه يعتبر زوجاً مهملاً.

كما أنّ هذه “الوحشية”، كان ينظر إليها كضرورة مدونة في أعراف القرنين الثالث والرابع عشر. لكن الأعراف التي تبيح ضرب الزوجة تشترط ألاّ يخلف ذلك ضررا بالغا بها.

ويعاقب الأزواج الذين يتساهلون مع زوجاتهم من طرف الجموع، بحيثُ يتجولون في الشوارع تحت ضحك وأغاني ومراهنات الجماهير المجتمعية. وهذا يوضح قوة السيطرة الاجتماعية آنذاك وعدم تساهلها.

الزوج حينها كان يتمتع بوصاية “قانونية” كاملة في المنزل. لهذا،كان الزوج الذي يعنف زوجته يفلت من عدالة الملك أو اللورد، إلاّ “في حالة وجود قتل أو تشويه أو بتر جزء من الأعضاء من جسد زوجته.

الطلاق أيضا كان صعب المنال وكان مرفوضا وممنوعا؛ خصوصا عندما تندرج الوحشية تحت يافطة القانون الكنسي، مجال الاعتداء الجسدي”، بحسب ما تنقله لوموند عن المؤرخ مارتين شارغات والفقيه القانوني سيمونا فيجي.

بداية الإدانة

في عصر التنوير، ستبدأ النظرة إلى واجب التصحيح في التغير شيئا فشيئا. انشغل الكتاب والفلاسفة بالدفاع عن حقّ النساء في الحماية والكرامة، وبدأت الأفكار الحديثة تتناسل، بخصوص أنّ الزواج يجب أن يكون راجعا للاختيار، وفق ما لاحظه فريديريك شوفو، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة بواتييه.

في عام 1780، اعتبر الفقيه القانوني بيير فرانسوا، في كتاب خصصه للقوانين الجنائية، أن الزوج القاتل لابد أن يكفِّر عن جريمته وأن يعاقب حتى نهاية حياته. ربما حينها، بدأ الموضوع يستأثر اهتماما أكبر بفعل الظهور التدريجي لفكرة الزواج عن حبّ، التي بدأت تكتسح العقليات في القرن التاسع عشر.

من خلال الاتجاه نحو نسف قيم مجتمع النظام القديم، فإن المفهوم الجديد للحياة الأسرية سار في اتجاه إدانة أيّ تصرف غير مقبول. لهذا، تؤكد المؤرخة إليزابيث لوسيت أن القرن الثامن عشر كان زمنا أخلاقيا للعلاقات الزوجية. لم يتم نزع واجب التصحيح من الزوج. لكن، بالمقابل، فرض عليه أن “يصحّح “باعتدال وبإحسان. صار الزوج “محاصرا” من الجانب القيمي بضرورة معاملة زوجته بلطف ودفء. صار العنف أقل وجودا وأقل قبولاً مقارنة بالسابق.

هكذا، حافظ مبدأ “التصحيح” على “طرافته”، ولم يعد في مواجهة شرسة مع الزمن الطارئ وقتها، غير أنه تخلّص من القسوة والعنف والوحشية التي طبعته آنفا. أصبح العنف مدانا من طرف المجتمع “الحديث” وأيضا من طرف أنظمة العدالة المعاصرة لتلك الفترة.

غير أنه… حتى حين صارت قضايا العنف المنزلي نادرة، فإن المزيد والمزيد من النساء كن يقررن اللجوء إلى المحاكم، الشيء الذي لم يكن ممكنا في العصور الوسطى.

الاجتهاد القضائي في بداياته بدا متوافقا مع الأخلاق الزوجية الجديدة، حيث طالب تدريجيا بأنسنة “واجب التصحيح”، وأن تكون العقوبات الناجمة عنه “معقولة”.

في نطاق برلمان باريس، الذي كان يغطي ثلثي شمال المملكة في القرن الثامن عشر، حُظًر من تلك اللّحظة توجيه ضربات قوية للزوجة، “دون سبب وجيه”، قد تسبب جروحا بليغة تظهر على الوجه أو البطن أو الذراعين أو الأعضاء التناسلية، كما تشير المؤرخة جولي دويون.

هذا التصور الذي كان يتضمن روحا عالية من المساواة للزوجية، هو الذي انتصر في عام 1789 خلال الثورة الفرنسية. وعلى الرغم من أن الثوار لم ينخرطوا بالتأكيد في سياسة قمع العنف المنزلي، إلا أن قانون 1792 أقرّ لأول مرة زواجا مدنيا على أساس الموافقة الحرة لكلا الزوجين، وأذن بالطلاق في حالة التجاوزات والعنف والإهانات الخطيرة.

المؤرخة فيكتوريا فانو تعتبر أن في ذلك ثورة كبيرة على القوانين القديمة، فقد صار ممكنا بالنسبة للنساء ضحايا العنف أن تنفصلن عن أزواجهنّ.

في الجزء الثاني، نتابع كيف تراجع قانون مدني وضعه نابليون سنة 1804، عن كلّ ما اعتبر تطوراً في التعامل مع العنف ضدّ النساء، كما سنعاين ظهور النسوية لتنخرط في هذا النقاش وتدافع عن كرامة النساء بآليات فكرية نظرية وعملية أيضا.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *