بول بولز في مرآة أهل طنجة 3/2
في آخر أيام بول بولز، يحكي بنيحيى، مشهد مشي بولز بخطوات متعبة، يخرج من سيارته يتجول في بعض فضاءات طنجة. ينتشي باسترجاع ذكرياته مع المدينة. يقول بنيحيى: وجدته حزينا يقول: “ما كان على شكري أن ينعتني بما قال، في إشارة إلى ما كتبه شكري في كتاب “عزلة بولز”. لم أفعل ما يسيء له، بل ساهمت في ترجمة أعماله والتعريف به”.
كثيرون ممن عاصروا بول بولز، يستحضرون مسيرته ولقاءاتهم به. عبد اللطيف بن يحيى واحد منهم. هو شاعر وأديب وصحفي إذاعي، عاصر زمنَ بولز ورافق محمد شكري في برنامجه الإذاعي بإذاعة طنجة، يحكي لمرايانا عن بولز وعزلة طنجة وغيرها.
أمريكي في الهامش
يقول بنيحيى: “قمت بزيارة بول بولز في منتصف السبعينيات. نسَّق اللقاء الكاتب والفنان التشكيلي، محمد المرابط. توجهت إليه برهبة. لم أقرأ حينها ولو نصا واحد له، إلا أني سمعت أنه ترجم قصصا وروايات لرواد الشفاهيين وعلى رأسهم ادريس الشرادي الذي حكى له العديد من التفاصيل عن حياته، فجمعها في رواية؛ فضلا عن إنجازه عددا من الترجمات لأعمال محمد المرابط، الذي كان يقيم معه في البيت ويقوم بخدمته ويهتم بصحته”.
دخل المتحدث شقة بولز. كانت عبارة عن بيت صغير، صالون ثم غرفة النوم التي يرقد بها في منطقة تُعرف بسوق البقاش بجوار القنصلية الأمريكية أنذاك. يقطن بول بولز إلى جانب زوجته جين أوير، إلا أنها مستقلة عنه في طابق آخر. عانت من اضطرابات عصبية مما دفع بها للسفر لتصبح نزيلة بمصحة للأمراض العقلية، لترحل بعدها سنة 1973.
دخلت بيت بولز، يسترسل بن يحيى، وجدته مع محمد المرابط. هو الذي فتح الباب ورحب بي. كان حينها بولز يجلس على الأرض في منزل لا يوجد به هاتف ولا تلفاز. كان يحبذ أولئك الذين يجلسون بجواره لتدخين الحشيش. كان هادئا، يركن للصمت في معظم الأحيان رغم إتقانه للإنجليزية والفرنسية والإسبانية والدارجة المغربية منذ إقامته بمدينة طنجة سنة 1947.
ألقى بنيحيى التحية على بولز. كان محمد المرابط ومحمد شكري حاضرين خلالَ هذا اللقاء. كانت المرة الأولى التي يلتقي خلالها شكري. يقول بنيحيى: كنتُ مصمما على عتاب بولز. ماذا يفعل مع هذا النمط الذي لا يعكس الحياة الاجتماعية الحقيقية للمغاربة؟ ولا يبرز طبيعة المجتمع المغربي؟ حدثت بولز ببراءة: يا سيدي إنك تتعامل في ترجماتك مع بعض النماذج التي لا تمت بصلة للإبداع المغربي الحقيقي في مجال القصة والرواية.
يقول بنيحيى… سؤالي كان نِتاج أفكاري حينها. كنت حديثَ انتماء للجامعة بالرباط. كنا نؤمن بالتيار اليساري. هذا الانتماء لليسار الجذري انعكس على اهتماماتي الأدبية والفنية، وهو ما شكل لديَّ استفزازا طرحته على بولز. اعتبر بولز أن ما أشير إليه لا يهمه أبدا. ما يهمه هو سرد ما يجول في العوالم الخفية لشخصيات الهامش؛ إدريس الشرادي، محمد المرابط وغيرهم.
بضيف بنيحيى، بعد اللقاء، عاتبت نفسي. ربما كنت مندفعا، بعدما اكتشفت اعتناء بولز بعدد من الرواد الشفاهيين. رافقني للخارج محمد شكري قائلا: يجب أن تعلم أني لست مثل أولئك الذين ذكرتهم. سبق لي أن نشرت قصة بمجلة الآدب اللبنانية بعنوان “العنف على الشاطئ”، ولا ينشر في هذه المجلة إلا الكتاب الذين لهم شأن. وأنا معلم أمارس التعليم. كانت هذه هي بداية تعرفي على محمد شكري عن طريق الزيارة التي قمت لبولز.
كما رأينا في الجزء الأول، الذي تطرقنا فيه لحلول بولز بطنجة وعلاقته بموسيقى جهجوكة، فقد ساهم بول بولز في إنقاذ التراث الجبلي “جهجوكة”، الذي يعتمد على عازفي آلات الغيطة مع قارعي الطبل الجبلي. فتح المجال أمام البشير العطار من أجل نشر هذا اللون الموسيقي في أمريكا وفي العالم. الدعم الذي قدمه بولز للعطار هو ذاته ما قدمه لبعض الأسماء التي راجت أعمالها في مجال القصة القصيرة والرواية وهي لا تعرف قراءة ولا كتابة. نفس الشيء يحدث كذلك مع الرسام أحمد اليعقوبي الذي أعتبرَه من التشكيليين المذهلين، يقول بنيحيى.
محج الشعراء وزمن الأخطاء
حسب بنيحيى، هناك العديد من الضيوف الذين كانوا يتوافدون من مختلف الأقطار العربية على بيت بولز. كلهم يؤكدون بأن الرجل كبير ومذهل. في حين أننا، في المغرب، لم نكن قد انتبهنا إليه. الوحيد الذي انتبه إليه بعمق، وأنجز له الترجمات هو إبراهيم الخطيب.
كانت أعمال بولز ملهمة للكتاب والمخرجين، ومنها رواية “السماء الواقية” الي أعجب بها المخرج الإيطالي برناردو برولوتشي الذي حولها لفيلم ذائع الصيت وهو “شاي في الصحراء”. فضلا عن أعمال استحسنها مخرجون آخرون.
أفول بولز… أم إرث؟
في آخر أيام بولز، يحكي بنيحيى، مشهد مشي بولز بخطوات متعبة، يخرج من سيارته يتجول في بعض فضاءات طنجة. ينتشي باسترجاع ذكرياته مع المدينة. يقول بنيحيى: وجدته حزينا يقول: “ما كان على شكري أن ينعتني بما قال، في إشارة إلى ما كتبه شكري في كتاب “عزلة بولز”. لم أفعل ما يسيء له، بل ساهمت في ترجمة أعماله والتعريف به”.
سجل المتحدث أن بولز شكَّكَ فيما يقولُ شكري كثيراً. تلك الأحاديث التي يرويها شكري يشعر بولز أن فيها نوعاً من المبالغة.
كان بولز يسجل ما حكاه رواد القصة والتراث الشفهي، ويسجل أحاديثَ زواره عبر آلة التسجبل Uher أو ما تُعرف بـ الناكرا Nagra، وهي آلة للتسجيل تستعمل في الإذاعة زودته بها مكتبة الكونغرس، سجَّل بها مجموعة من الأنماط الغنائية في مختلف مناطق المغرب.
في هذا السياق، يقول بنيحيى: “أطلعني بولز خلال زيارتي له على الآلة. كانت لديه تسجيلات عديدة لا تُعد؛ مع إدريس شرادي، محمد شكري، محمد المرابط وغيرهم من رواد السرد الشفهي. إلا إني الآن أتساءل عن مآل كل تلك التسجيلات. الأكيد أنها بيد محمد المرابط. بقيت بحوزته بعد وفاة بولز”.
رحل بولز في 18 نوبر 1999 بالمستشفى الإيطالي. وعلى الرغم من إمكانياته التي تتيح له التنقل للعلاج في أمريكا، إلا أنه فضل المستشفى الإيطالي ليلفظ فيه أنفاسه الأخيرة.
لقراءة الجزء الأول: بول بولز بطنجة… بعض من حكاية عشق 3/1
لقراءة الجزء الثالث: بول بولز: ليالي طنجة وملاذ الأدباء وسرديات تحكى لأول مرة 3/