بول بولز: ليالي طنجة وملاذ الأدباء وسرديات تحكى لأول مرة 3/3 - Marayana - مرايانا
×
×

بول بولز: ليالي طنجة وملاذ الأدباء وسرديات تحكى لأول مرة 3/3

بين طنجة الأمس، وطنجة اليوم، هناك الحالمون بها على الدوام، رغم خيبة أملهم فيها، وبول بولز أكبرهم. إنّ الانتحار الياباني انتصار وليس انهزاما. لكنّ بول ينهزم دون أنْ يخوض معركة، عندما يقول مازلتُ أنتظر موتي في طنجة. إنّها جذوة الجمال، تلك التي جعلت هذا الكاتب الأمريكي يتسمر على صلبان هذه المدينة الرائعة، وينتظر موته فيها

في الجزء الأول الذي تحدثنا فيه عن بعض جوانب عيش بولز بطنجة، وفي الجزء الثاني من هذا الملف رأينا بولز بأعين أهل طنجة وعلاقته بشكري . في هذا الجزء الثالث والأخير، نستحضر آراء من سيرة رجلٍ وُلد مرتين. كانت ولادته الأولى في أمريكا، غير أن ولادته الوجودية كانت في مدينة طنجة التي مكثَ فيها على الدوام.

رحمان عباس، شاعر عراقي أقامَ بالمغرب، درَّس بمدينة وجدة، يتحدث لمرايانا عن بول بولز بأسف، لكونه لم يتلقه يوما إلا أنه يعرفه حقَّ المعرفة. وثّق له في كتابه “المغرب بعيون عراقية”.

بولز بعين عراقية

يسرد الكاتب العراقي لمرايانا شذرات من كتابه عن بول بولز ويقول: “كثير من أدباء العالم وفنانيه عشقوا طنجة. بعضهم مرٌ بها ورحل، وبعضهم اصطفاها لتصبح مأواه الأخير. الأديب والفنان الأمريكي بول بولز، والذي عقد علاقات أدبية مع الكثير من الأدباء المغاربة، منهم محمد شكري، الذي كان أديبا بالفطرة. استطاع أنْ يترجم تجاربه المرّة ويحوّلها إلى أعمال أدبية راقية. كما إنّ خبزه الحافي قد نقل طنجة إلى شرق العالم وغربه. إنه عمل جميل. يمثل الوجه الآخر لشرائح اجتماعية مهمشة، وجدت نفسها على أرصفة الفاقة والبؤس”.

يذكر رحمان عباس في كتابه أيضا، الأديب الفرنسي جان جينيه، الذي عشق طنجة أيضا. ولكنه آثر أن ينتقل إلى مدينة بحرية أقل ضجيجا، فاختار العرائش حتى مات فيها.

ينقل عباس حديث شكري عن بولز ويقول: “بين طنجة الأمس، وطنجة اليوم، هناك الحالمون بها على الدوام، رغم خيبة أملهم فيها، وبول بولز أكبرهم. إنّ الانتحار الياباني انتصار وليس انهزاما. لكنّ بول ينهزم دون أنْ يخوض معركة، عندما يقول مازلتُ أنتظر موتي في طنجة. إنّها جذوة الجمال، تلك التي جعلت هذا الكاتب الأمريكي يتسمر على صلبان هذه المدينة الرائعة، وينتظر موته فيها”.

بولز ملهم الروائيين بطنجة

يتحدث إلينا يوسف شبعة، وهو كاتب مغربي وروائي ابن مدينة طنجة. يذكر أيام صِغره ويقول: “كنت صغيرا أرمق مُسنا أشيب الرأس نحيف البنية يستند إلى عكازه، يخرج من فندق المنزه بخطوات وئيدة نحو سيارته مستعينا بمرافقه. لم أكن أعرف يومها من يكون هذا الرجل الذي يتلقى تحيات حارة وتقديرا لا تخطئه العين من قبل مودعيه”.

ستمر السنين وسيعرف يوسف أن ذاك المسن هو ذاته بول بولز من خلال الجرائد والمجلات، ومن خلال برامج تلفزية إسبانية بالخصوص. سيتذكر يوسف أن الرجل الذي كان يصادفه هنا وهناكَ أكثر من مرة، وهو يهم بالخروج من فندق المنزه، كان الكاتب الأمريكي الشهير بول بولز.

حسب يوسف شبعة، ساهم بول بولز في التعريف بمدينة طنجة من خلال كتاباته، بل حوَّلها إلى قِبلة لكتاب وفنانين عالميين جاؤوا خصيصا إما لأخذ دروس في الكتابة الروائية أو الاستقرار بطنجة بفضل كتاباته عنها، والتي يقول في وصفها، إن من يزورها، يعتقد أنها  مدينة فُصلت على مقاسه، مثل الكاتب الأمريكي جون هوبكنز صاحب “يوميات طنجة” سنة 1960 (والذي كتب جزءًا منها بدار “زيرو” وهي أحد أشهر المنازل بالقصبة)؛ ويمكن اعتبار كتابه أو مذكراته، وثيقة تاريخية عن الحياة الاجتماعية والثقافية، ليس فقط بطنجة، بل بالمغرب خلال مرحلة الستينات. سبب مجيء جون هوبكنز إلى طنجة، هو تعلم فن الكتابة على يد بول بولز، وغيره كثير.

استطاع بول بولز أن يغير وجهة عدد من الكتاب إلى طنجة مثل ترومان كابوتي، ألن كيسنبرغ، وليام بروز صاحب رواية الغداء العاري (التي كتبها بفندق “مونرية” بطنجة). هذا الفندق الذي حاز شهرة عالمية يومها حيث كان ينزل به جل هؤلاء الروائيين العالميين…

أثناء إقامته بطنجة، تعرض بول بولز لاستفزاز مقابل المال، من قبل الكاتب الأمريكي ألفريد شيستير، الذي تلقى دعوة لزيارة طنجة من قبل بولز، حيث سيحل بطنجة سنة 1963 وسيقضي بها سنتين مليئتين بالأحداث والمغامرات؛ وسيقع في غرام صياد بمدينة أصيلا اسمه ادريس.

يضيفُ يوسف شبعة أن ألفريد شيستر كان، يومها، صوتا أدبيا بارزا بنيويورك. بل عندما سئل بول بولز عن أعظم الكتاب الأمريكين من قبل أحد الصحفيين رد قائلا: ألفريد شيستر لو لم يكن أحمقا.

خبايا بولز وطنجة

يسرد شبعة لمرايانا حكايات مثيرة عن بولز، ويقول إن ألفريد شيستر، أثناء إقامته بطنجة، أخبره الصحفي ايرفن روزيندال عن نيته تخصيص مقال بجريدة نيويورك تايمز عن مثلية بول بولز، فما كان من ألفريد شيستر سوى مساومة بول بولز بالمقال، مطالبا إياه بمبلغ قدره عشرة آلاف دولار مقابل التوسط له بعدم نشره، وهو ما وافق عليه بول بولز.

بعد هذه الحادثة، اضطربت العلاقة بينهما ورحل ألفريد شيستر إلى “إسرائيل” بسبب سلوكياته الرعناء، ليتم العثور عليه فيما بعدُ منتحرا في إحدى غرف فندق بإسرائيل.

انطباع شبعة عن بولز هو ذاته الانطباع عند مثقفي وأدباء طنجة، ممن اهتموا بسيرة الرجل، فجميعهم يجمعون أنه من طينة الكبار. يسترسل شبعة بالقول: بولز روائي كبير، قدِمَ طنجة بنية تسجيل أو حفظ الموسيقى الشعبية المغربية مبعوثا من طرف مكتبة الكونغرس، فألهمته طنجة وأغرته بالكتابة. لكن لا يمكن أن نختزل طنجة في بول بولز لأن الكاتب، مهما كتب، لا يمكن أن يحيط بكنه أية مدينة مهما بلغه يراعه من علو شاهق.

يؤكد شبعة أن بولز كما غيره، مثل محمد شكري، كتب عن جزء من طنجة، فطنجة أكبر من أن يصوغها كاتب في قالب روائي أو أي جنس أدبي سواء كان شعراً أو قصةً. هذه المدينة توهم المبدع أنها فصلت من أجله دون غيره! لتحثه على إبراز عوالمها على غير إبداع سابق، فهي لا تبوح بسرها كاملا لأي مبدع بل تبادل المبدع بحجم حبه لها فتغدق عليه من عوالم الإبداع.

هكذا نكون قد عبرنا بكم من خلال ثلاث أجزاء لسيرة أديب استثنائي قدمَ لطنجة زائرا وغادراً روحا إلى السماء حيث بقي صداه يجول في سماء طنجة التي كانت ملهمة لعدد من الكتاب والمبدعين.

لقراءة الجزء الأول: بول بولز بطنجة… بعض من حكاية عشق 3/1

لقراءة الجزء الثاني: بول بولز في مرآة أهل طنجة 3/2

لقراءة الجزء الثالث: بول بولز: ليالي طنجة وملاذ الأدباء وسرديات تحكى لأول مرة 3/3

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *