جواهر البرازيل.. سحر شلالات إجوازو وشواطئ فلوريبا (2/2) - Marayana - مرايانا
×
×

جواهر البرازيل.. سحر شلالات إجوازو وشواطئ فلوريبا (2/2)

البرازيل ليست فقط عَلماً وأرضا وحدودا…
البرازيل فتنة، وسحر، وتجسيد لفلسفة فريدة للحياة والحرية؛ لكنها أيضا قسوة وآلام عندما ندرك أن هذه القوة الاقتصادية الكبيرة يعيش فيها الملايين فقرا مدقعا مما ينعكس سلبا على أمن السياح، خصوصا في ريو دي جانيرو وساو باولو.

“لا أريد مشاهدة الحياة.. أريد أن أعيشها”

عادل إمام

 

الحياة بعدان: الأول ميكانيكي: الفواتير، والضرائب، والاجتماعات، ووسائل النقل، والروتين..  والثاني شاعري: الرقص، والأحلام، والغرائز، والمغامرات، والرغبات.. في البرازيل، البعد الثاني مقدس، يجذب السياح كمغناطيس، ويسيح بهم في عوالم آسرة.

بعد التعرف على جزء منها في المقال الأول، نُكمل اكتشاف ريو دي جانيرو، قبل حملِ الحقائب والاستمتاع بمدن أخرى في الجنوب البرازيلي.

هيبة الماراكنا والطريق إلى فلوريبا

شمال ريو. برونو، رفيق الغروب، يقطن على بعد كيلومترين من الماراكانا.  في هذه الحالات، يحق للإنسان أن يحسد شخصا ولا يغبطه.

معبد كرة القدم وأشهر ملاعبها. أسطورة الملعب بدأت مع فاجعة “ماراكاناسو” (Maracanaço) عندما خسرت البرازيل  كأس العالم 1950  ضد الأوروغواي أمام أنظار حوالي 200  ألف مناصر، في مشهد يعتبر المأتم الأكبر في تاريخ كرة القدم.

أحمد مستاد في ملعب الماراكانا
أحمد مستاد في ملعب الماراكانا

دلفت المركانا فارغا من جماهيره، روحه الأثيرة المتشكلة من مناصري فرق المدينة: فلامنغو، وبالميراس، وبوتافوغو وغيرها. تذكّرتُ مقولة إدواردو غاليانو : “المكان الأكثر خواء في العالم هو ملعب كرة القدم دون جمهور”.

استهجنت وضع صورة كبيرة لنيمار بدل ”الظاهرة” رونالدو. هل المآرب التسويقية أهم من تكريم من جلب الذهب المونديالي للبلد؟ متحف الملعب يزخر بصور أكبر الساحرين في كرة القدم، اللائحة لم تبدأ مع بيليه ولن تنتهي مع رونالدينهو، وغارينشيا، وروماريو، ونيمار.

حان الوقت لأكتوي بلوعة مغادرة الأمكنة. وداع ريو.. والطريق إلى فلوريانوبوليس.

في المحطة، يحمل أغلب المسافرين مخدّات، لأن شاسعة مساحة البلاد تحتم على المسافرين رحلات مكوكية. تشعر أن المحطة غرفة نوم عملاقة في الهواء الطلق!

يزخر جنوب البلاد بوسائل نقل وطرق ممتازة. لكنني لم أسمع برازيليا واحدا يتبجح بتوفر الحافلات على مقاعد واسعة ومريحة، وحمامات، وثلاجات. لا أعرف لماذا قضى المغاربة سنوات وهم يحتفون بالقطار فائق السرعة “التيجيفي”، وكأنه انتصار لأحد أبناء البلد بجائزة نوبل!

رفيقتي في الطريق كانت سطور جورجي آمادو، أحد أشهر الكتاب البرازيل، مع روايته “قباطنة الرمال”.

أطفال وقاصرون يثيرون الرعب في “باهيا”(Bahia) بإجرامهم، ثم يحتمون ليلا في الميناء، قبل أن يتدخل قس لكي يثير الفضيلة في نفوسهم.

توقفنا في باحة استراحة. وقت الأكل. من أجمل الأشياء في البلد انتشار “مطاعم الكيلوغرام”. إنها ديمقراطية الأكل. من 130 إلى 220 درهم مغربي للكيلوغرام (حسب تصنيف المطعم)، ويمكن أن تختار، بالكميات الملائمة لك، ما يطيب لك من لحوم وخضر وفواكه.

جمال فلوريبا وشلالات إغوازو

تقع فلوريانوبوليس، في رحلة جوية، على بعد حوالي 750  كيلومترٍ من ريو.

آه يا فلوريبا آه! لماذا اختارتك ولاية سانتا كاتارينا عاصمة لها؟ لماذا يحتضنك أكثر من ستين شاطئ؟ لماذا كل سفوح جبالك رمال؟ لماذا تنعمين بأفضل مستوى معيشة في البرازيل؟ لماذا يقطن نصف مليون شخص فقط أكثر من 50 كيلومتر مربعا ؟

شاطئ فلوريبا من الأعلى
شاطئ فلوريبا من الأعلى

تحاملتُ على إمكانياتي الرياضية المتوسطة، وتسلقت جبل “لاغوينا دي ليسستي”، من أجل نظرة بانورامية على الشاطئ. ساعة ونصف من التسلق وتقع أسيرا في يد البياض البهي للزبد، وزرقة المياه الناصعة، والخضرة الجميلة التي تغطي الجبال.

على سطح جبالك يافلوريبا، أيقنت أن الحياة أحلى عندما ننظر إليها من الأعلى. تمنيتُ لو كنت حمامة، لن تجدَ لها مستقرا في أرض الله الواسعة، وكأنها خُلقت فقط لتذكر الناس بعظمة السلام.

واصلت الترحال. هذه المرة في اتجاه “فوز دي إجواسو” (Foz do Iguaçu) بالقرب من حدود البرازيل مع الأرجنتين والبارغواي.

قوس قزح. ألِفته معلّقا في السماء، لكنه في شلالات إجوازو يتراءى أمام البصر. تشعر أنكَ يمكن أن تمسكه بيدك. المياه تتدفق على حد البصر بعنف آسر. كنت أرمق المشهد بانبهار طفل، وحساسية إنسان، والإعجاب المصطنع لسائح. كلما اقتربتَ من الشلات تتطاير القطرات إلى جسمكَ، ويتلاعب بك الرياح، وتزداد انبهارا بعظمة المشهد.

الإنسان يكافح في الحياة فقط لينعم برؤية هذه المناظر. هكذا خمنت.

كسلي حال دون حصولي على الفيزا الأرجنتينية التي تخول اكتشاف80  بالمائة من الشلالات.. يعتبرها السياح أقل إبهارا لكنها أخاذة أكثر وتتيح حميمة أكبر مع الشلالات.

.. هذا  جوهر حكايتي مع البرازيل.. أما تفاصيلها الكاملة، فتحتاج سطورا لا منتهية.

رغم فداحة الفوارق الطبقية، وتفشي الفقر، يتفنن البرازيليون في الاستمتاع بالحياة، ينتصرون لما هو جميل فيها: الرقص، والجنس، والرياضة، والحرية…

لن أجسر أبدأ على قولِ: “تعلموا فن العيش من البرازيليين”، لأن الخصوصيات الثقافية للكثير من الشعوب تفرض تصورا مغايرا للحرية وأساليب العيش.

لم أكتشف سوى جزءٍ صغيرٍ من البلد، لكنه غمرني بالإعجاب والانبهار. إنه البلد-القارة، يتيح للسائح كل الممكنات، ويستجيب لكل المآرب، البريء منها والمثير للريبة. أتحسّر على عدم زيارة “سالفادور دو باهيا”، حيث مهد البرازيل وآثر إرثه الأفريقي.

تحاشي المخاطر الأمنية لزيارة البرازيل يمر حتما عبر التقيد بلباس عادٍ جدا.. دون تأنق مبالغ فيه، واستعمال الهاتف للضرورة فقط، واستفسار السكان المحليين عند زيارة الأماكن غير السياحية. لكن، إن كنت أشقرا بعيون خضراء أو زرقاء، فلا يمكنك سوى أن تلوم جيناتك على جعلك فريسة مستهدفة من البرازيليين الضالين.

في النهاية، لا يسعني سوى أن أؤكد لكم أن البرازيل ليست فقط عَلماً وأرضا وحدودا، إنه فتنة، وسحر، وتجسيد لفلسفة فريدة للحياة والحرية؛ لكنه أيضا قسوة وآلام عندما ندرك أن هذه القوة الاقتصادية الكبيرة يعيش فيها الملايين فقرا مدقعا مما ينعكس سلبا على أمن السياح، خصوصا في ريو دي جانيرو وساو باولو.

هذا التباين السوريالي أكد قناعتي الأكبر: الحياة كلها كذبة كبيرة.. لكنها جميلة!

 

لقراءة الجزء الأول: رحلة إلى البرازيل.. تمارين في السحر والجمال والغواية

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *