صلاح عبد الصبور: الشاعر الذي قال الشعر… تصوفًا! 1\2
في هذا البورتيه نتعرّف إلى صلاح عبد الصبور، أحد أهم الشعراء المصريين المعاصرين، وأحد أعمدة الشعر الحرّ…
رأى صلاح عبد الصبور النور في 03 ماي 1931، في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية في مصر.
حظي بتعليم عموميّ في مدارس تابعة للحكومة المصرية. إلاّ أنّه تعلّق باللغة العربية، فكانت اختياره الجامعيّ، حيث تخصّص فيها في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول “القاهرة حاليًّا”.
خوّلت له تجربته الجامعية أن يدرسَ على يدي الشيخ أمين الخولي، الذي ضم عبد الصبور إلى جماعة “الأمناء” التي كوّنها، ثم إلى الجمعية الأدبية التي ورثت مهام الجماعة الأولى، وكان للجماعتين تأثير كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر.[1]
حين تخرّج، تمّ تعيينه مدرّسا تابعاً لوزارة التربيّة والتعليم. قدّم استقالته واشتغل صحافيًّا. كانت البداية في التحرير مع مجلة روز اليوسف ثم “جريدة الأهرام. في عام 1961م، عين صلاح عبد الصبور بمجلس إدارة الدار المصرية للتأليف والترجمة والنشر، وشغل عدة مناصب بالدار، ثم عمل مستشارا ثقافيا للسفارة المصرية بالهند، ثم اختير رئيسا لهيئة الكتاب”. [2]
ربط علاقة حميمة في وقت مبكّر مع نظم الشّعر. وبدأت قريحته الشّعريّة بالاشتغال خلال مرحلته الثّانوية تحديداً. كانت قصائده تلقى صدى لدى مجلة الثقافية القاهرية والآداب البيروتية التي نشرت أعماله.
تمحور اهتمام صلاح عبد الصبور بالتّصوّف والفلسفة والتاريخ والفكر والتراث، إلخ. أبدى ولعاً فريداً بالأساطير، خصوصاً أسطورة السندباد التي ترد كثيراً في أشعاره.
بدأ يدخل مضمار الشعر الحديث حين صدرت له قصيدة شنق زهران، لكن، بشكل أقوى، حين صدر ديوانه الأول “الناس في بلادي”، الذي مطلعه:
الناس في بلادي جارحونَ
كالصقورْ غناؤُهم
كرجفةِ الشتاءِ في ذُؤَابَة المطرْ
وضحكُهم يِئِزُّ كاللّهيبِ في الحَطَب
خُطَاهُمُ تُرِيدُ أن تَسُوخَ فِي الترابْ
وقتها، برزت ملامحه كأحد أهمّ أعلام شعر التفعيلة، إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وخليل حاوي وعبد الوهاب البياتي، بل وتفوّق عليهم في عمليّة التّنظير والتّأصيل المنهجي… وهو ما بدا واضحاً في كتابه: “حياتي في الشعر“.
تختلفُ منابع التأثّر عند صلاح عبد الصبور. لكنّه بدا منشدًّا إلى التّصوف في تجربته الشّعريّة، لذلكَ تحضرُ أفكار بعض أعلام الصّوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافي، كقناع يتخفى خلفه ليعبّر عن مكنوناته. كما تأثر بشكل حصريّ بإليوت.
الشّعر كشطحاتٍ… صوفيّة!
في تجربة صلاح عبد الصبور، يحدثُ تزاوجٌ بين الشّعر والتّصوّف. كأنه في عملية الخلق الفني يغدو “أشبه بالصّوفي؛ ورحلته للوصول إلى إبداعه تشبه رحلة الصوفي الذي يرتقي ضمن جدل حميمي بين المقامات والأحوال ليصل إلى غايته في الشهود، والتحرر من أغلال النفس والجسد”.[3]
التلقائية في التجربتين: الشعرية والصوفية، والاستناد إلى المكابدة الداخلية، والكفاح الذاتي للوصول إلى حالة الصفاء العقلي والقلبي، يجعل التجربتين متداخلتين مع اختلاف الدافع والغاية، ولكنهما تتوحدان في المنبع؛ إذ إن “كلتيهما تستندان إلى الحفر في الذات للوصول إلى الغاية. لذا، يصبح كل من الحدس الصوفي / الشعري طريقة حياة، وطريقة معرفة في آن، ونتصل عبره بالحقائق الجوهرية، وبه نشعر أننا أحرار قادرون بلا نهاية. إنه يرفع الإنسان إلى فوق الإنسان، ونشعر بالارتفاع إلى ما فوق الإنسان حين نتخطى الزمن ونصبح حركة خالصة”. [4]
هكذا، تكمنُ فرادة تجربة صلاح عبد الصبور، الشعرية، ونبوغه بين الشعراء المعاصرين له، بقدرته على تلوين الشّعر بأطياف الفكر، وتغذيّة فعل التّصوف بالفن، وتطعيم الوجد بالحدس، ودمج الواقع بالغيب. وحشو الذّاتية بجرعة من الموضوعية… لكنّ الجامع بين هذه الأشياء لا يفقد تجربته الشعرية تلقائيتها وعفويتها وتدفقها ووهجها. وبالضّرورة، لا يبخسُ ذلك من شأنها الفنيّ أو مضمونها الجماليّ.[5]
بمضامينه الصّوفيّة، يسعى صلاح عبد الصبور أن يخبر العالم بأنّ كل إضافة إلى خبرة الإنسانية هي خطوة نحو الكمال، أي خطوة نحو الله. أما الحياة، فهي صراع مرير بين الخير والشر، وأن غاية الوجود هي تغليب الخير على الشر من خلال الصراع والكفاح، كي يعود الكون إلى براءته.[6]
مسؤولية الإنسان إزاء ذلك، تتمثّل في تشكيل هذا الكون وتنقيته في الوقت نفسه. من هنا، فإن غلغلة العقل في المادة هي مدار الحياة الدينية والفلسفية والفنية للإنسان؛ فكلّ شيء يبقى رهيناً بقدرات العقل الإنساني على تفكيكه وفهمه.
كأيّ متصوّف يؤمنبماهيّة الدين بدل الانشداد إلى قشور الشّريعة، فإنّ صلاح عبد الصبور يحاول، عبر أشعاره، تبيئة نموذج إنساني، يجري “في غايته الكليّة إلى الحقّ وإلى الله متحررًا تمامًا من أغلال العبودية والفقر والطغيان والظلم.[7] لذلك، يستحضرُ أعلام التّصوف في التراث الإسلاميّ، كما فعل في قصيدة “مذكرات الصوفي بشر الحافي“.
في هذه القصيدة، يطرح صلاح عبد الصبور رؤيته الشعرية بصورة تتماهى فيها معَ الرّؤية الصّوفية للحَياة… يقول:
ونزلنا نحو السوق أنا والشيخ
كان الإنسان الأفعى يجهد أن يلتفّ على الإنسان الكركي
فمشى من بينهما الإنسان الثعلب
عجبًا..
زورُ الإنسان الكركي في فم الإنسان الثعلب
نزل السوقَ الإنسانُ الكلب
كي يفقأ عين الإنسان الثعلب
ويدوس دماغ الإنسان الأفعى
واهتز السوق بخطوات الإنسان الفهد
قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب
ويمصّ نخاع الإنسان الثعلب
يا شيخي بسام الدين
قل لي “أين الإنسان؟ الإنسانُ؟“
شيخي بسام الدين يقول:
“اصبر..سيجيء..
سيهلّ على الدنيا يومًا ركبُه“.
يا شيخي الطيب!
هل تدري في أي الأيام نعيش؟
هذا اليوم الموبوء هو اليوم الثامن
من أيام الأسبوع الخامس
من الشهر الثالث عشر
يحاولُ عبد الصبور أنّ يصوّر عالمه، زمنئذٍ، توسّلاً بهذه الأبيات. كأنها محاكاةٌ لواقع إنسانيّ وما يكتنزهُ من شرّ ورذيلة ومكائد وضغينة وكراهيّة وحقد وعنف، وكلّ ما من شأنه أن يغتال معنى الإنسان… “أين الإنسان… الإنسان؟”.
أما في قصيدته “رسالة إلى صديقة” والتي يلتقي فيها بالشّيخ محي الدّين الذي يرمز إلى معنى الارتقاء الرّوحي إلى درجة التّسامي، فيقول:
بالأمس في نومي رأيت الشّيخ محي الدّين
مجذوب حارتي العجوز
كان في حياته يعاين الاله
تصوري، ويحتلي سناه
وقال لي: ونسهر المساء
مسافرين في حديقة الصّفاء
يكون ما يكون من مجالس السحر
وفي مأساة الحلاج يقول، على لسان الأخير، مخاطباً الشبلي:
لا، إني أشرح لك
لِمَ يختار الرحمن شخوصاً من خلقه
ليفرِّق فيهم أقباساً من نوره
هذا، ليكونوا ميزان الكون المعتلّ
ويُفيضوا نور الله على فقراء القلب
وكما لا ينقصُ نور الله إذا فاض على أهل النعمة
لا ينقص نور الموهوبين إذا ما فاض على الفقراء
يقول صلاح عبد الصّبور معلّقا على هذه المسرحية: “أمّا القضية التي نطرحها، فقد كانت خلاصي الشّخصي، فقد كنت أعاني حيرة مدمرة إزاء كثير من ظواهر عصرنا… وكنت أسأل نفسي السؤال الّذي سأله الحلاّج لنفسه ماذا أفعل؟ وكانت إجابة الحلاّج هي أن يتكلم ويموت. فليس عندي الحلاّج صوفيا فحسب، ولكنه شاعر أيضا والتّجربة الصّوفية والفنّية تنبعان من منبع واحد… وهي العودة بالكون إلى صفائه”.
لقد عثر الشاعر على ملاذ روحيّ ليكرّس نفوره من مجتمع آيل إلى مزيد من التّردي القيميّ. لذلك، في قصيدته “مذكرات رجل مجهول” يفجّر خطًّا آخر ليبرز عبره إنساناً يمشي إلى مصيره بكلّ هدوء وثبات ويرسم معاناته بأنامل عدميّة. يقول في هذه القصيدة:
أصحو أحياناً لا أدري لي اسْماً،
أو وطناً أو أهلا،
أتمهَّلُ في بابِ الحجرةِ
حتى يدركَني وجداني
فيثيبَ إليَّ بداهةَ عرفاني
متمهِّلَةٌ في رأسي،
تهوي في أطرافي ثقلا
تُلْقي مرساها في قلبي..
هذا يومٌ مكرورٌ منْ أيّامي
يومٌ مكرورٌ منْ أيّامِ العالَمِ
تلقيني فيهِ أبوابٌ في أبوابْ
ويغلِّلُني عرقي ثوباً نسجتْهُ الشمسُ الملتهبَةْ
ثوباً منْ إعياءٍ وعذابْ،
وأعودُ إلى بيتي مقهوراً
لا أدري لي اسْماً،
أو وطناً، أو أهلا
هذا المقطع يعكِسُ نوعاً من قلق الهويّة. ولا يمكنُ قراءتهُ إلاّ من زاوية الاغتراب الذي سيطر على الشاعر الحرّ عموماً. بيد أنّ صلاح عبد الصبور يُحمّل هذه التجربة الصوفية مكنونات سياسيّة وأيديولوجيّة نافرة من الاستبداد والرّجعية والسّقوط الحضاري الذي ساد في تلكَ الفترة. ذلك التّحالف قتل الطّموح ومزّق الأحلام، خصوصاً مع “دخول تشكيلة اجتماعية واقتصادية في مأزق، حيث يحاصَر الفرد من قبل مؤسسات فيشعر بالضّياع وانهيار قيمه”. [8]
هكذا، كان التّصوف/الشّعر هو الخلاص. التّصوّف كان هو الإطار الأقرب للتعبير به وفيه عن صراع الإنسان مع العالم الخارجيّ. استطاع الشاعر / الإنسان أن يعبّئ تلك التجربة بقلقه وإحساسه بالعجز أمام مسؤولياته الهائلة. كما شحنها بموقفه من هذا الوجود، لاسيما وأن الصوفية جاءت كردة فعل ضد التّردي الذي دلفت إليه الحياة، وضد التّشبث بالسّطحيّات والامتلاء من الخارج. [9]
لكن هذا النّزوع الصوفيّ خلقَ حزنا عميقاً تمظهر في قصائد عبد الصبور. وملامح هذا الحزن نطّلع عليها في الجزء الثاني من هذا البورتريه.
هوامش:
[1] عوريبة عتيقة، عن ورقتها البحثية:ملامح الصوفية في شعر صلاح عبد الصبور.
[2] المرجع نفسه.
[3] علي مصطفى عشا، تعالق التجربتين الشعرية والصوفية لدى صلاح عبد الصبور، مجلة جامعة دمشق، المجلد 25 العدد الأول- الثاني، 2009. (بتصرف)
[4] المرجع نفسه.(بتصرف)
[5] نفسه. (بتصرف)
[6] نفسه. (بتصرف)
[7] نفسه. (بتصرف)
[8] قطاف جلول وبن سعيد محمد، عن ورقتهما البحثيّة بعنوان : الدلالات الصوفية في شعر صلاح عبد الصبور، مجلة إشكالات في اللغة والأدب، مجلد 10 عدد 2، 2021. (بتصرّف)
[9] المرجع نفسه. (بتصرف)
- الجزء الثاني: صلاح عبد الصبور: يا صاحبي… “إنّ هذا الشّاعر حزين”! 2\2