صلاح عبد الصبور: يا صاحبي… “إنّ هذا الشّاعر حزين”! 2 - Marayana - مرايانا
×
×

صلاح عبد الصبور: يا صاحبي… “إنّ هذا الشّاعر حزين”! 2\2

في الجزء الأول، عاينا حلقات من حياة صلاح عبد الصبور، وقدمنا النفحة الصوفية في قصائده.
في هذا الجزء الثاني، نستقرئ مضامين الحزن في أشعاره، وكيف سيطر عليه هذا الحزن… حتى قتله!

من الأشياء الهامّة التي ينبغي الانطلاق منها، أنّ الحزن يعدّ من الملامح المهمة في تجربة صلاح عبد الصبور الشّعرية، مما دفع النّاقد عز الدين إسماعيل إلى أن يقول: “وربما كان الشاعر صلاح عبد الصبور أكثر شعرائنا المعاصرين حديثًا عن الحزن، ومع ما يتخلل قصائده عن الحزن من مشاهد حية، ومن مواقف إنسانية يتجسم فيها الباعث على الحزن”.

التّصوّف… الذي يفرخُ حزناً

من أهمّ التيمات الشّعريّة التي ميزّت شعر صلاح عبد الصّبور، تيمة الحزن. دفع تشبّثه بالحُزن في شتى قصائده ومسرحيّاته كثيراً من النّقاد إلى عدّه بـ”شاعر الحُزن”، وسميّت أشعاره بـ”الحزن المُقفّى” أو “الحزن الموزون”.

حاولت الدّراسات النّقديّة التي اهتمّت بموضوعة الحزن عند صلاح عبد الصبور، بما فيها أبحاث الأديبة مديحة عامر، أن تعلّل ذلك بتعمّق إحساس هذا الشاعر بدوره التاريخي، ومسؤوليته أمام ضميره، وأمام العالم كمثقّف عضوي وملتزم بهموم الكادحين والمسحوقين والمظلومين.

لهذا، يبدو الألم في قصائد عبد الصبور طافحاً. ومعايشة المعاناة هي بالفعل أهم ركائز تجربته الشعرية.

يمكنُ القول، هنا، إن حزن العوام قد ينبع من رؤيتهم الجزئية للحياة، وهمومهم الصغيرة التي تطفو على السطح؛ فيكون إحساسهم بالحزن يعد إحساساً دائريا يبدأ من ذواتهم وينتهي إليها. غير أنّ إحساس صلاح عبد الصبور، كمثقّف / كشاعر، بالألم فينبع من تطلعه إلى البناء والإصلاح وتغيير العالم.[1]

هذا الحزن ليس أمراً مكنونًا أو ضمنيًّا في قصائد عبد الصبور، بل هو تمظهر صريحٌ يأتي، لغويًّا، في شكل نداء، كإخبار للعالم بما يخيّم على ذاته من حزن، في تفاعل مع التعاسة الجمعيّة في وطنه.

يقول في قصيدته “الحُزن”:

يا صاحبي، إني حزين

طلع الصباح، فما ابتسمت، ولم ينر وجهي الصباح

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح

وغمست في ماء القناعة خبز ايامي الكفاف

ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ

فشربت شاياً في الطريق

ورتقت نعلي

ولعبت بالنرد الموزع بين كفي والصديق

قل ساعة أو ساعتين

قل عشرة أو عشرتين

وضحكت من اسطورة حمقاء رددها الصديق

ودموع شحاذ صفيق

وأتى المساء

في غرفتي دلف المساء

والحزن يولد في المساء لأنه حزن ضرير

حزن طويل كالطريق من الجحيم الى الجحيم

حزن صموتْ 

ثم يضيفُ:

والصّمت لا يعني الرضاء بأن أمنية تموت

وبأن أياماً تفوت

وبأن مرفقنا وَهَنْ

وبأن ريحاً من عَفَنْ

مس الحياة، فأصبحت وجميع ما فيها مقيت

حزن تمدد في المدينة

كاللص في جوف السكينة

كالأفعوان بلا فحيح

الحزن قد قهر القلاع جميعها وسبى الكنوز

وأقام حكاماً طغاة

الحزن قد سمل العيون

الحزن قد عقد الجباة

ليقيم حكاماً طغاة

قال أحدُ النقّاد، في تعليقه على هذه القصيدة، إنّ الحزن الذي يتحدّث عنه صلاح عبد الصبور، هنا، يتميّز بكونه حزنًا تاريخيًّا متجددا، يمتدّ في الزمان والمكان. فهو يمثل قهرا ليس ناجما عن علة ميتافيزيقية أو أخلاقية بالمعنى المثالي فحسب، بل هو أيضا قهر أرضي صنعته قوى إنسانية من أجل هدف محدد (الحزن قد سمل العيون / قد عقد الحياة / ليقيم حكاما طغاة). [2]

إنّ الحزن. هنا، يصبحُ غاية مخططاً لها من طرف المتربّصين والطغاة من الحكام الذين يقهرون شعوبهم… خصوصاً في البيئة “العربيّة” التي نشأ فيها هذا الشّاعر.

لكن… هذا الحزن الصٍريح الذي يفصحُ عنه الشّاعر، سيأتي في موضع آخر محطّ سؤال وحيرة وبحث عن المعنى الممكن لهذا الحزن المُستبدّ. إلاّ أنّه سيبقى حزناً، بل حزناً عارماً. يقول:

هناك شيءٌ في نفوسنا، شيء حزين

قد يختفي ولا يبين

لكنه مكنون

شيء غريب، غامض، حنون

لعله التذكار

تذكار يوم تافه بلا قرار

أو ليلة قد ضمها النسيان في إزار

لو غصت في دفائن البحار لجمعت كفاك من محارها

تذكار

لعله الندم

فأنت لو دفنت جثّة بأرض

لأورقت جذورها، وأينعت ثمارها

ثقيلة القدم

لعله الأسى 

سنتساءلُ مجدّدًا: لماذا هذا الشاعرُ حزين؟ هذا السؤال طغى في الساحة الأدبيّة طيلة تواجد صلاح عبد الصبور على قيد الحياة، وكان دائماً يستفسر عن ذلك في اللقاءات الأدبية والإعلاميّة، وغيرها.

لعلّنا نجدُ إجابة، على لسان الشاعر، أوردها في كتابه “حياتي في الشعر”. يقول: لست شاعرًا حزينًا، ولكنني شاعر متألم، وذلك لأن الكون لا يعجبني، ولأنني أحمل بين جوانحي – كما قال شيللي – شهوة لإصلاح العالم، وهذه الشهوة هى القوة الدافعة فى حياة النبي والفيلسوف والشاعر، لأن كلا منهم يرى النقص، فلا يحاول أن يخدع نفسه، بل يجتهد فى أن يرى وسيلة لإصلاحه، ويجعل دأبه أن يبشر بها”.

آخرُ الحزن 

كانت النقطة السّوداء في حياة صلاح عبد الصبور، بدأت تلملمُ سوادهَا منذ يناير 1981. في هذه الفترة، كانت القاهرة تستعدّ لاحتضان معرض القاهرة الدوليّ للكتاب، وصلاح عبد الصبور شغل وقتها منصب رئيس الهيئة العامة للكتاب.

عقدةُ عبد الصبور، أو حزنه الجديد، كان بسبب كيان لقيط: إسرائيل المُحتلّة. تل أبيب أعربت عن نيّتها، في رؤية معالم اتفاقية “السّلام” كامب ديفيد لسنة 1977 واقعاً. وبالتّالي، عبّرت عن رغبتِها في المُشاركة في معرض الكتاب الذي ستحتضِنه مصر.

وافق الرئيس أنور السّادات على هذه المشاركة، بيد أنّ النخبة في مصر تخوّفت من هذه الخطوة، باعتبار التطبيع الثّقافي من أخطر درجات التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاشم. ومن ثمّة، دخل عبد الصبور في مأزق أخلاقيّ وحرج عميقٍ كرئيس لهيئة الكِتاب، وأساساً كمثقّف مناهض، مبدئيًّا، لعمليّة السلام مع كيان محتلّ.

يقول السفير السابق صلاح شعراوي إنّ الشاعر، فعلاً بذل جهوداً لمنع تواجد إسرائيل في المعرض، وقدّم حججا واقعيّة بما فيها أنّه انتهى، عمليًّا، موعد قبول طلبات المشاركة.

كما يؤكّد شعراوي في كتابه “قطوف من الذاكرة التاريخية”، أنّ الأمر قد قُضِيَ من الرئيس أنور السادات، فخضع عبد الصبور لرغبة الرئاسة.

ما سيزيدُ الطين بلّة أنّه، يوم انطلاق أشغال المعرض، بدأت احتجاجات، منظّمة، من لدن لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، وهي لجنة تشكلت عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1977… إلاّ أن الأجهزة واجهت الوقفة بعنف واعتقلت نشطاء في صفوف اللجنة، وهو ما وضع عبد الصّبور في محنة.

حاول بعدها أن يلجأ إلى الصّمت. لكنه لم ينجح أن يعيد صورته كمثقّف ملتزم بقضايا الأمّة إلى الواجهة، بل بات “خائنا” في نظر النخبة حينئذٍ.

مرّت شهور، وفي غشت 1981، بالضّبط في اليوم 14 من ذات الشّهر، كان إلى جانب بعض المثقفين المصريين وقتها ببيت صديقه الشاعر عبد المعطي حجازي. كان من بين الحاضرين جابر عصفور وزوجة صلاح عبد الصبور سميحة غالب والشاعر أمل دنقل وزوجته الكاتبة عبلة الرويني والرسام بهجت عثمان.

كانت اللّيلة مخصّصة للشعر والسّمر. لكن، فجأة، دخل عبد الصبور مع الرّسام بهجت عثمان في نقاش حاد، بخصوص حضور تل أبيب في معرض الكتاب، فوجه له الرسام ريشةً من السمّ في الكلام. وجه له أصابع الاتهام بالخيانة وبالاتجار بالقضية الأولى للعَرب حينها:القضيّة الفلسطينية!

لم يتحمّل قلبُ هذا الشاعر الحزين هذه “الرّصاصة” الموجعة… فمات في الحين متأثّراً بنوبة قلبيّة.

هكذا، عاش هذا الشاعر حزيناً، وقتلته كلمة أو جملة عمّقت الحزن بداخله، فخفق قلبه الذي لم يعد يجدُ مكاناً… لمزيد من الحزن!

لربّما، في الأخير، يبدو أنّه مثلما كتبَ خليل حاوي بطعم الهزيمة، فبقيت الهزيمة ملازمة للمنطقة، فقد كتب صلاح عبد الصبور، أيضا، بطعم الحزن وظلّ الحزنُ عنواناً لأوضاع المقهورين في المنطقة. منطقة… تأبى أن تلتحق بسيرورة الحداثة في كلّيتها. كما ترفض أن تنظر حتى بعين ناقدة إلى الشقّ العقليّ الثّائر في التراث.

يدفعنا ذلك إلى الدعوة إلى ضرورة إعادة استقراء شعر صلاح عبد الصّبور، لا قراءته… فربّما أحسن رثاء له أن نخبر الأجيال أنّ هناك من نبّأنا بالحزن العام والأسى المطلق، فلم نتّعظ!

هوامش:

[1] علي مصطفى عشا، تعالق التجربتين الشعرية والصوفية لدى صلاح عبد الصبور، مجلة جامعة دمشق، المجلد 25 العدد الأول- الثاني، 2009.

[2] قطاف جلول وبن سعيد محمد، عن ورقتهما البحثيّة بعنوان: الدلالات الصوفية في شعر صلاح عبد الصبور، مجلة إشكالات في اللغة والأدب، مجلد 10 عدد 2، 2021.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *