التشكيل والجنس… بين النقد الأخلاقي والفن “النظيف”! 2/2
الفنّ “النّظيف” يُجرد الإنسان من إنسانيته ومن رغباته ومما يشكل طابعه الحي؛ فالحياة من غير رغبة وشهوة وفتنة حياة أموات، وتجريد الفن من هذه الأعماق الملغزة يحول الكائن البشري ونظرته إلى عماء عمّا يشكل القوة الكُبرى التي تشكله. الفن حين ينحصر بحدود معينة ينتفي كفنّ…
في الجزء الأوّل من هذا الملف، رأينا كيف أن “التقليدانية” لازالت تتعامل مع الفنّ بصفة عامة بشكل زجري انتصاباً على مفهوم “الأخلاق الدينية”.
في هذا الجزء الثّاني، نرصد من وجهة نظر نقاد فنيين، كيف يستطيع الفنّ أن يساهم في التربية، وكيف يتمّ إجهاض هذا الدّور من طرف “شُرطة الأخلاق” و”حُرّاس الفضيلة”.
الفنّ التشكيلي: رهان التربية
في حديثه لـ”مرايانا”، لا ينكرُ الناقد الفني موليم العروسي إمكانيةَ أن يُعطي الفن التشكيلي والفنون الجميلة الأخرى، فُرصة للتربية على مفهوم الاختلاف، باعتباره فنّا يطرح أسئلة. أمّا التربية، فهي مسؤولية المدرسة والمجتمع والأحزاب السياسية، حيث يتربّى داخل الفرد احترامُ الآخر وقنَاعاته واختياراته، ما دام لا يمسّه جسدياً.
ليس ثمة فن تصويري “نظيف”، أولاً لأن نظرتنا كمتلقين ليست نظيفة وإنما هي مشبعة بكل ما يشكل الكائن البشري من متناقضات
العروسي يستمرّ بالدفاع عن قيمة الفنّ، متحجّجاً بأنّ الفنّان في النّهاية لا يرغمُ الأفراد على الذّهاب للمَعرِض لرُؤية أعمالِه، ولا للسّينما لمشاهدة الفيلم ولا للمكتبة لمطالعة أفكاره. لذا، فهؤلاء الأفراد ملزمون بالمقابل باحترامه.
في الحقيقة، هذا “النّقد” له منفعة “أُخرَوية” بالنّسبَة للأفرَاد الحَركِيين في المجال العقدي أو الديني، أي أنّهم يحاولون تحصيل الأجر والثواب من هذا العمل لنيل الجنّة، على اعتبار أنّ الأفراد العاديين ينظرون للعمل ويقولون: “اللهم إن هذا منكر” ويستمرون في طريقهم، دون أن يهددوا الفنان بالقتل أو يدعموا حملات تخويف ضدّه، لأنّه مارس حقّه في التعبير كفنّان!
“المحافظون الحركيون”، في نظر الناقد، هم دائماً ضدّ كل جديد يأتي به النّاس، ولا يريدون أن يروا المجتمع يتغيّر، رغم أنّ المجتمع عملياً يتغيّر سواء في الظّاهر أو البَاطن.
الناقد فريد الزاهي، في حديثه لـ”مرايانا”، يرى الفنّ أولاً وقبل كل شيء، حرية توسع من نظرتنا للعالم حتى في أحلك الفترات التي يسود فيها القمع والكبت والحد من الحريات العامّة.
الفنّ، حسب الزاهي، لا يتطور وسط الثنائيات السياسية منها والميتافيزيقية، فهو يخلخلها كلها إن لم يستطع تدمير مفاهيم الخير والشر وغيرها المرتبطة بها، لأنه يعبر عما لا يستطيع رجل السياسة والدين والمربي أن يعبر عنه.
إنه “يتنفس تاريخ وهوية الإنسان ووعيه ولاوعيه، ومكبوتاته العميقة، وهو يفجر كل هذا طبعاً بطرق إبداعية لا بطرق مباشرة.”
هكذا، يبدو أنّ التشكيل نوع من الاحتفاء بالحياة ونبذ شتّى أشكال الموت، لكونه أحد أنواع الجمال. والدّقة في التعبير عن القضايا الشّائكة المتعلّقة بالحرية وغيرها؛ هو… منتهى الجمال!
أيضاً، تبقى عملية تلقّي الفنّ التّشكيلي تجرِبة وجدَانيّة وحسيّة وعقليّة، وهذه “الثّلاثية” هي مَا يدفَع إلى رفضِ أعمَال فنيّة تتّسمُ بالجُرأة أو قبُولها في أفقِ الاقتناع بالأفكار والأسئلة البِكر التي يمكنُ أن تطرحها.
لكن التّمييزُ الحقيقي لا ينبغي أن يصبّ بشكل سطحي بين ما هو “نظيف” أو “عَفن”، بالمعنى الأخلاقي، بل بين ما هو، بالفعل، تحفة فنية، وبين ما لا يمتّ للفنّ بصلةٍ شكلاً أو مضموناً؛ لأنّ الفريق الأول ينطلقُ من عداءٍ ” إيديولوجي” للصّورة، وهو في الحَقيقة عداءٌ للحياة!
في إشكالية الفن النظيف
الفنّ “النّظيف” فكرة أطلقتها العَدالة والتّنمية بالمَغرب، وهُو “مفهوم” لصِيقٌ بالإسلاَم السّياسي. والنّقاش الذي واكبَ هذا “الفكرة”، كان قوياً جدّا حتّى قبل وصول “الإسلاميين” للسّلطة… حسبَ ما أفادهُ موليم العروسي لـ”مرايانا”.
العروسي يعتقد بأنّ هذا “المفهوم” يُدخِل الفن في نطاق الطّابو، وهو أمر طبيعي مادام الشّعب المغربي لازَال يُعاني من مَشاكل شخصِية مع الجنس والجسد، إذ هي نتيجة منطِقية لذَلك أن تكون الغلبةُ للطابو في تقييم بعض الأعمال الفنّية.
الفنّان في النّهاية لا يرغمُ الأفراد على الذّهاب للمَعرِض لرُؤية أعمالِه، ولا للسّينما لمشاهدة الفيلم ولا للمكتبة لمطالعة أفكاره
من جهته، عبّر فريد الزاهي عن كونه ضدّ النظرة الإسلاموية التبسيطية للفنّ، على اعتبار أن ما يسمّى الفنّ “النّظيف” يُجرد الإنسان من إنسانيته ومن رغباته ومما يشكل طابعه الحي؛ فالحياة من غير رغبة وشهوة وفتنة حياة أموات، وتجريد الفن من هذه الأعماق الملغزة يحول الكائن البشري ونظرته إلى عماء عمّا يشكل القوة الكُبرى التي تشكله. الفن حين ينحصر بحدود معينة ينتفي كفنّ…
ليس ثمة فن تصويري “نظيف”، أولاً لأن نظرتنا كمتلقين ليست نظيفة وإنما هي مشبعة بكل ما يشكل الكائن البشري من متناقضات، ومن رغبة في تنظيف نفسه من أدران الحياة، فعليه إما أن ينعزل أو يداوم على أماكن العبادة، ولا أحد يضمن له الخلاص مما تحبل به الحياة من فتن ورغبات، يقول الزاهي.
الفن، يردف الناقد الفني، لا يمكن أن يكون نظيفاً؛ لأنه إن رغب في أن يكون كذلك، فسيشبه رسوم التلاوة أو سيكون تصويرا لدروس التربية الدينية… وهو إن كان نظيفا فسوف لن يكون فناً أبدا وإنّما ما يُشبه الوصايا العشر البصرية لفنّ محكوم عليه بأن ينفي عن نفسه صفة الفن.
“تهافت” النّقد الأخلاقي
الناقد موليم العروسي يذهب إلى أنّ النقد الأخلاقي غير مبني في أسَاسه على أدلّة فنية. لذلك، هو يشهرُ ورقته ليس فقط في الجانب الفنّي، بل حتّى فيما يخصّ القيم المجتمعية. هو خطاب أخلاقي، لم يتغيّر وظلت بنيته المفاهيمية جامدة وثابتة، حتى في أوج تبدّل الظّروف والسّياقات.
بالنسبة للعروسي، فهذا الخطاب يدافعُ، بما يملك، عن وضعية يريد بقاءها وهي ذاهبة في طريق الانتهاء والزّوال، رغماً عنه.
أما بالنّسبة للزاهي، فهو يرى بأنّه ليس هناك نقد أخلاقي يمكن اعتباره ممارسة نقدية مقبولة في مجال الفنون البصرية، وإنّما ثمة نقد للأخلاق. ما هناك، ويمكن أن نعتبره حدودا مقبولة في كافة المجالات، هي حدود الأخلاقيات Éthiques.
ويوضّحُ المتحدّث بأنّه منذ سنوات مثلاً، قام فنّان جزائري معاصر بحرق دجاجات في إحدى منشآته الفنية وُوجِه بالاستنكار… كما تم استنكار أعمال فنانة أوروبية تمارس الحز على جسدها وتستعرض جراحه وندوبه.
الفن المعاصر، أكثر من الفن السابق، يدفع بحدود الاستكشاف إلى أقصاها؛ والجنس أو الوضعيات الجنسية لم تعد في منظوره طابوهاً وإنما أمراً متجاوزاً. إنه يستكشف مغاور اللاوعي البشري وحدود المتعة والألم والمعاناة، يقول الناقد.
الفن “النّظيف” يُدخِل الفن في نطاق الطّابو، وهو أمر طبيعي مادام الشّعب المغربي لازَال يُعاني من مَشاكل شخصِية مع الجنس والجسد
ثمة بالمقابل، وفق الزاهي، إنكار أخلاقي للفن ينبع لدينا من أقانيم أخلاقية وشرعية. فالجسد ظل يشكل مكبوت المجتمع العربي أو المغربي، أما الإيحاء الجنسي بكافة أشكاله، فإنه يُلاقي في الصّورة ما قد يلاقيه في الواقع من تجريم قانوني. والتّحريم كما التجريم الأخلاقي لا يُفرّق بين خيالية التصوير والصوة وبين الواقع.
… في النهاية، هو يخاف الصّورة ويسعى إلى العودة إلى تحريم التّشخيص التصويري نهائياً… وما يقبله منه هو ما يخلو من كل ما يمس بأخلاقه. هذا الخوف من الصّورة هو، بشكل ما، خوفٌ من الجسد باعتباره أيضا صورة.
لكن… متى سيستطيع الفنان في المغرب أن يُبدع ويوزّع ويعرض أعماله على الجمهور دونما قيد أو شرط، ويترك كلمة الفصل للنقاد الفنيين دونما مضايقة أو إرهاب نفسي أو اتهام بـ”الزندقة” و”الانحلال الخُلقي” من طرف الحركات الإسلامية؟
هناك آمال كبيرةٌ ملقاةٌ على عاتق هذا السّؤال…
مواضيع قد تهمّك:
- التّشكيل والجنس… حين تحاول “التقليدانية” كسر ريشة الفنّان! 1/2
- الرواية والمرأة وقيم الحريات الفردية والجنسية… ليلى “الخارجة عن القانون” في رواية “ملنخوليا” 1/2
- الحركة الغيوانية… على مقام الحرية تُغنّى هموم الإنسان
- في حوار مع مرايانا… بوحسين: الجائحة أثّرتْ كثيراً على الفنّ، ودرسُها أنْ يُعادَ النّظر في التدبير الثقافيّ…
- مظاهرُ الحداثةِ في الشعر العربي… أبُو نواس والتغزل بالغلمان 2/1