الأردن.. السفر في أحضان الجمال وهواجس الشرق الأوسط 2/2
رغم افتتاني بهذا البلد، لم أتناسَ معضلة التاريخ: إرث الإغريق لم ينفع اليونان التي صارت قبل سنوات قليلة عبئا على الاتحاد الأوروبي، كما زال مجد الأنباط في البتراء…
يعاني الأردن اليوم اقتصاديا من اتكائه على السياحة والمساعدات الدولية وبعض المعادن.
“We travel not to escape life, but for life not to escape us.”
– Robyn Yong.
………….
بعدما تابعنا في الجزء الأول تفاصيل رحلة قصيرة في العاصمة الأردنية عمّان، واستكشاف عظمة البتراء، وسحر صحاري وادي الرم، نكمل السفر الشيق، في هذا الجزء الثاني، في الأردن، من بوابة مدينة العقبة الساحلية قبل الختام مع معالم عماّن.
متعة وتأملات في العقبة
ارتأيت أن “الأوتوستوب” سيكون حلا جميلا للذهاب لمدينة العقبة من وادي رم. دقائق من الوقوف تحت شمس ضارية، قبل أن يحملني سائحان فرنسيان. استرسلت في استعراض مؤهلات المغرب السياحية وأهمية زيارته.
مدفوعا بالقليل من السذاجة والكثير من الحماس، أتحول عندما ألاقي الأجانب إلى رسول سياحي يبشر بروعة أرض المغرب وغنى روافده الثقافية.
تكرم شاب أردني باستضافتي في بيته. عندما كان يكمل استعداداته لطهي المنسف، دعاني أسامة بحماس للاقتراب من النافذة، ثم قال: “انظر إلى الجبال التي تتراءى هنالك، إنها أم الرشراش، وصارت تسمى اليوم مدينة إيلات”.
كان يحكي بإسهاب عن حلمه بزوال إسرائيل. عندما شرحت له عدم واقعية هذا الطرح، بسبب توغل الاستيطان وحجم الدعمين الغربي والأمريكي، رماني بتجهم مريب. كثيرون في هذه الحياة يموتون… متأثرين بأحلامهم البليغة.
سمعت عن ذلك من قبل، لكني عشت نفس الصدمة الثقافية وأنا أرمق أردنيات وهن يشربن الشيشة.
وهو ينثر أنفاسا عميقة من النرجيلة، حدثني صديق أسامة عن ذكرى قصة حب عنيفة. أظن أن الحب مثل السيدا، عندما يصاب به الشخص، لا يُشفى منه أبدا.
ونحن نرمق علم الثورة العربية الكبرى، الذي يرفرف أعلى مدينة العقبة، أخبرت الشباب المرافقين لي أننا درسنا بالأحرى، في المغرب، غدر سايس-بيكو وليس “ثورة” العرب على العثمانيين. أعتقد أن التاريخ وقائع وليس أرضا خصبة للتأويل.
العقبة مطلة على البحر الأحمر. مدينة صغيرة، عصرية، وهادئة. تستهوي عشاق الرياضات المائية. شعرت بنفس الافتنان وأنا أتأمل الغروب في أحد شواطئها. أجمل الأشياء في هذه الحياة هي التي تغمرنا بنفس المشاعر عندما نراها كل مرة!
استمتعت أيضا بالجمال المعماري لمسجد الشيخ زايد، وأكلت ألذ كنافة في حياتي… تشعر أن هناك حياة قبلها وأخرى بعدها.
ختامُه عمّان…
صعدت لأعلى المدرج الروماني، أشهر معالم عماّن، ولوحت بوشاح الرجاء البيضاوي. تخيلت أن هذا المكان هو محاكاة رومانية لمنعرجات ملاعب كرة القدم (المدرجات خلف المرمى). حققت نصفا… من حلم، أن أرتقي عاليا كطائر وأتأمل البشر صغارا كالنمل… غارقين في أحلامهم وهمومهم.
لست ماضويا أو رجعيا، لكنني كلما زرت مدرجا رومانيا، تساءلت: لماذا انتقل الترفيه والنقاش العمومي، من المدرجات الرومانية والأغورا والصالونات الثقافية، إلى فايسبوك ونيتفليكس؟ هل هي سيرورة تاريخية حتمية… أم تحديث فج؟
لم أفوت زيارة البحر الميت. كيلومترات من العاصمة الأردنية، ويمكن أن يجرب الإنسان أفضل ”عومة” ميت في العالم، بسبب الارتفاع الشديد للملوحة. كم يحلم الإنسان أن يضيع في رحابة البحر لينسل من إكراهات العيش في البر!
…
– المغاربة أبناء عاهرة.
– أشرف منك.
هكذا انتهى سجالي مع سائق أردني، بعدما اختلفنا حول تفاصيل الرحلة من البحر الميت إلى عمّان. بعد أيام، خلُصت لأنني كنت مخطئا، وكان يمكن أن أتحاشى، من باب الاحترام، مجادلة رجل متقدم في السن. الدرس الذي تعلمته… أن دقائق من عدم التحكم في الأعصاب قد يحول جميع أبناء بلدك لأبناء عاهرة لأن السائح يتحول، رغما عنه، لمرآة لدولته.
كنتُ أهيم في عماّن، مثقل الخطوات من فرط التعب، عندما عثرت على هذه الأبيات المنثورة في واجهة عمارة:
لنتخيل
الأنهار تحترق في البعيد
نسمع الصمت وفجأة
تأتي الموسيقى نحونا
كي تقتلنا
ليعود الرقص أقوى
تحت الشمس البيضاء
سُررت عندما اكتشفت أنها تعود للفنان المغربي محمد الباز. الخرافة الوحيدة التي أؤمن بها هي أن المغاربة، أينما حلّوا، “حاكمين” العالم.
أبرز مكان يفوح منه عبق التاريخ هو جبل القلعة في عّمان: يجاور معبد هرقل الذي بناه أوريليوس كنيسة بيزنطية، وقصرا أمويا، ومتحف الآثار الأردني الذي يختزل قرونا من التاريخ!
كم هو ساحر الأردن! كم هم كرماء أهله!
رغم افتتاني بهذا البلد، لم أتناسَ معضلة التاريخ: إرث الإغريق لم ينفع اليونان التي صارت قبل سنوات قليلة عبئا على الاتحاد الأوروبي، كما زال مجد الأنباط في البتراء، ويعاني الأردن اليوم اقتصاديا من اتكائه على السياحة والمساعدات الدولية وبعض المعادن.
تمسك الأردنيين بالقضية الفلسطينية صادق جدا، لأسباب تاريخية، على عكس بعض الدول العربية التي يصبح فيها التضامن استعراضا فجا أو يتحول لموضوع نقاش عمومي سوريالي مثل المغرب بعد أن أعاد علاقاته مع إسرائيل. آمل أن يرى كل من تحدثت معهم فلسطين كما يحلمون بها… أو على الأقل، ألا يتلاشى حلمهم بحرية تلك الأرض حتى نبضهم الأخير.
الخلاصة: يمكن أن نسافر، لنستمتع ونتألم، لنكتشف ونتأمل، وفاءً لرمادية الحياة، وبحثا عن إدراك للتفاوت بين تميز مؤهلات البلد السياحة وصعوبة الواقع المعيشي للسكان.
- لقراءة الجزء الأول: أسبوع في الأردن… سيرة التاريخ وهواجس الحاضر 1/2