من مصر، محمد حميدة يكتب: مسلسل الحشاشين… المصرية، لغة ولهجة
اللغة واللهجة المصرية لها خصوصيتها وتؤدي وظيفتها على عدة المستويات، وبما أن الدراما كانت أحد أهم العوامل في ترسيخ وظيفة اللغة المصرية في العصر الحديث، فمن الأجدر استثمارها
ليست المرة المرة الأولى التي يثار فيها الجدل بشأن استخدام اللهجة المصرية في الأعمال الدرامية الهامة والتي يتجدد الحديث حولها في الموسم الرمضاني 2024، مع عرض مسلسل “الحشاشين”، في تكرار لنفس الأمر مع مسلسل رسالة الإمام رمضان 2023.
بداية، يجب التأكيد على أن النقاش، من حيث المبدأ، هو حالة صحية وإيجابية في المجتمعات التي لديها من الرصيد ما يستحق النقاش، حتى وإن كانت بعض الآراء مؤدلجة أو موجهة محبة أو كارهة، فالساحة تسع الجميع والنتائج محكومة بعوامل التاريخ والجغرافيا والرصيد الثقافي والحضاري.
كما أود التنويه هنا أيضا إلى أن المصري القديم، بحسب كتاب “اللغة المصرية القديمة”، أطلق على لغته “فم مصر”، وعرفها أيضا “لسان مصر” و”كلام مصر”، وصبغها بهالة من القدسية عندما وصفها بـ “كلام الإله” و”الكلام المقدس”.
وهي، حتى وإن تغيرت مع مرور الوقت، تحظى بأهمية حتى يومنا هذا، بما فيها من مفردات من العصر القديم ومفردات قبطية وعربية.
عند الخوض في النقاش الدائر، نجد أن بعض الأسئلة تفرض نفسها ويطرحها البعض، في مقدمتها ما يتعلق باستخدام اللغة أواللهجة المصرية في أعمال تاريخية يتصل جزء كبير منها بمناطق خارج مصر وكذلك بحقب تاريخية يفترض أن اللغة الفصحى كانت السائدة فيها (هو أمر محل نقاش أيضا)، وهو ما ينبثق عنه تساؤل آخر بشأن وظيفة اللغة وأهداف الدراما.
في الإجابة على السؤال الأول، نجد أنفسنا أمام جدل آخر بشأن وظيفة اللغة، بين من يرون أنها مجموعة من الإشارات والعبارات والرموز التي تستعمل كآلية للتواصل، باعتبارها تؤدي وظيفة تواصلية فقط؛ ومن يرون أنها متعددة الوظائف. شخصيا، أرى أن تعدد الوظائف هو الأقرب بالنسبة للغة أو اللهجة، في مقدمتها التواصل، وتبادل ونقل التراث الثقافي والحضاري والحفاظ عليه، بل هي ضمن عوامل بقاء الأمم وزوالها.
وكما عرفها أوغست كونت في قوله “الإنسان مدنى بطبعه، يتكلم لغة الجماعة ويدين بدين المجتمع”، وأيضا في قول جوليا كريستيفيا : “إذا كانت اللغة مادة للفكر، فهي أيضا عنصر للتواصل الاجتماعي، فلا مجتمع بدون لغة، كما أنه ليس هناك مجتمع بدون تواصل”. ولكي تؤدي اللغة وظيفة التواصل، يجب أن تتوفر جملة من العناصر والشروط التي حددها رومان جاكبسون في قوله بشأن تحديد العناصر الحاكمة لوظيفة اللغة من “مرسل ومرسل إليه والاستجابة”، وهنا نستخلص إجابة هامة، بشأن اللهجة المصرية ما إن كانت تؤدي وظيفتها أم لا؟
بالعودة للجدل حول استخدام اللهجة المصرية في الأعمال الدرامية، قد اتفق مع ضرورة استخدام المستوى الأفصح في العامية المصرية بالأعمال التاريخية، ما يطلق عليها “العامية البيضاء”، دون الإغراق في الشعبوية. لكن، يجب التأكيد على أن اللغة المصرية والعامية تؤدي وظيفتها بشكل تام بالنسبة للتواصل، فالكثيرون ممن يعرفون اللغة العربية يعرفون المصرية لغة ولهجة، الأمر الذي يخرجنا من نقطة هامة وهي “عدم وصول الرسالة”، لننتقل لنقطة أخرى تتعلق بوظائف الدراما المتعددة.
دون شك، كانت الدراما المصرية أحد عوامل انتشار اللغة المصرية في العصر الحديث على نطاق واسع في العالم العربي وربما خارجه. لكن، هناك بعض الاعتبارات الأخرى التي ساعدت في استيعاب اللهجة المصرية وترسيخها في أذهان الكثيرين، لاعتبار أن العامية المصرية من بين اللهجات القريبة للغة العربية الفصحى، ويمكن هنا الإشارة إلى الدراسة اللغوية التي أعدها العالم اللغوي الراحل شوقي ضيف تحت عنوان: “العامية.. فصحى محرفة” في عدد مايو 2001، ونشرتها مجلة وجهات نظر المصرية، والتي فند فيها ما وصفه بتحريف الفصحى إلى العامية المصرية، وذكر منها بعض النماذج على سبيل المثال:
في مستويات متعددة، أبدلت العامية بعض الحروف، منها “أربعة أحرف من حروف الفصحى، وهي الثاء والذال والظاء والقاف، أما الثاء فتجعلها تاء في ثلاثة وثمانية وما تفرع عنهما في العشرات والمئات وفي عثمان تجعله عِتْمان وفي تثاءب تجعله مع تحريفات أخرى إتَّاوب وفي ثَخين بفتح الثاء تجعله تخين بكسر التاء. وتجعل الثاء دالا في ألدغ، وسينا في ثُمَّ العاطفة، وسَرِىّ في ثَرِى، وشينا في شِلَّة بكسر الشين بدلا من ثَلة”.
على مدار التاريخ والفترات التي احتلت فيها مصر من قبل العديد من الدول الأخرى، احتفظ المصري بهويته على مستوى اللغة، ورغم اندثار المصرية القديمة والقبطية، إلا أنه استطاع أن يمصر اللغات واللهجات التي حاول البعض فرضها عليها، وقد يكون لخصوصية اللغة العربية وارتباطها بالقرآن سر الانتشار في مصر والبقاء حتى اليوم. لكن العامية منها وهي الشائعة “مٌصرت”، وهناك أمثلة عديدة للكلمات العربية الفصيحة التي اختصرت بحذف أحد حروفها، أو الجمل التي اختصرت في كلمة منها “ماكلتش.. لم أكل، مانمتش: لم أنم، إلخ..”
استكمالا لوظائف الدراما، والتي تصنف أنها من أهم عوامل القوى الناعمة، يمكن الإشارة إلى مشهد يمكن لأي مصري التأكد منه بشأن ما حققته الدراما المصرية على مدى تاريخها؛ ففي أي بلد من بلدان منطقتنا، إذا تحدثت في الهاتف في مقهى أو حافلة أو أي تجمع، أو تحدثت مع أي شخص للمرة الأولى، لن يسألك عن جنسيك، بل سيجيبك مباشرة: أنت مصري!
من هذا المنطلق، يمكن التأكيد على أهمية استثمار وظائف الدراما في القوى الناعمة ومن بينها الحفاظ على انتشار وترسيخ اللغة المصرية من خلال الأعمال الهامة مثل “الحشاشين” وغيرها. وهنا، لا تفوتني الإشارة بشأن الأعمال التركية وغيرها التي تقدم بالفصحى ، فإن الأمر يرتبط بالجمهور المستهدف في الوطن العربي، وباعتبار الأغلبية من المنطقة لا تفهم التركية، فتتم دبلجتها للعربية الفصحى لأنه الخيار الأمثل بالنسبة لها، ليس انتصارا للعربية الفصحى، بالإضافة إلى أن الأعمال الهوليودية التي تحدثت عن شخصيات أو فترات في التاريخ العربي قدمت بالإنجليزية وليست بالعربية، فضلا عن مراعاة خصائص الجمهور المستهدف في الوقت الراهن والتي يمكن اعتبار العامية أقرب لها.
ختاما، يمكن القول إن اللغة واللهجة المصرية لها خصوصيتها وتؤدي وظيفتها على عدة المستويات، وبما أن الدراما كانت أحد أهم العوامل في ترسيخ وظيفة اللغة المصرية في العصر الحديث، فمن الأجدر استثمارها، مع الأخذ في الاعتبار ببعض الملاحظات حول مستوى العامية المستخدم، نظرا لتعدد مستويات العامية واللهجات المحلية أيضا.