عبد الدين حمروش يكتب: “الحريات المستحدثة”ــ عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الرحمن
كان رد فعل الدولة بـ “التغاضي”، في معظم الأحوال، بالنسبة لشرب الخمور والإجهاض وإقامة “العلاقات” خارج الزواج.
ولولا ما شهده المغرب، في السنوات الأخيرة، من حالات مُتابعة بعض الشخصيات السياسية، لظلت العلاقات الجنسية، مثلا، في حكم المُتغاضى عنها نظرا.
أعود إلى التاريخ، في هذا المقال، من أجل الوقوف عند أحد “الاصطدامات” الكبرى بموضوع الحريات الفردية، في عهد السلطان العلوي محمد بن عبد الرحمن.
فقد جاء في “استقصا” الناصري أن يهوديا اسمه روشاييل، كان من كبار التجار، وذا وجاهة لدى دولة الانجليز، أوفد صهرا له إلى مراكش لمقابلة السلطان بشأن طلب الحرية ليهود المغرب، نظير ما كان يتمتع به يهود مصر.
أجاب السلطان طلب المبعوث من خلال إصدار ظهير، مما جاء فيه عن اليهود: “ومن ظلم أحدا منهم أو تعدى عليه فإنا نعاقبه عليه”. غير أن ما ظهر من اليهود من تطاول وطيش، حسب ما ورد في عبارة الناصري، كان سببا لدفع السلطان إلى تعقيب الظهير بكتاب آخر، بيّن فيه ما عقده لهم من حريات.
بعد المبادرة الملكية الإيجابية، وما تمّ إقراره في نص العفو، يكون أحد القيود التحفظية قد زال، لمباشرة التفكير الهادئ في مستقبل “الحريات الفردية” ببلادنا.
بعد الانتهاء من قصة اليهود، سيخوض الناصري في موضوع الحريات، التي وجد أن أمرها مُستحدث من قبَل “الفرنج”. في سياق ذلك، لم يفته أن اعتبر هذه الحرية من وضع الزنادقة، “لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا”.
من جهة حقوق الله، فالحرية تقتضي إسقاط حقوق الله، التي توجب حدودا معلومة على تارك الصلاة والصوم وشارب الخمر والزاني. ومن جهة حقوق الوالدين، فحرية الولد البالغ والبنت في سنّ العشرين، تتعارض مع واجب البرور. ومادام البرور بالوالدين في المرتبة أولى، فإنه لا معنى لحرية الأبناء إلا بقدر رضى أوليائهم.
إقرأ أيضا: محمد علي لعموري يكتب: تفاعلا مع موقف عمر بلافريج…الحريات الفردية بين الطابو والتسييس
واضح أن مفهوم الحرية هذا يتعارض مع نظيره الإفرنجي، من منطلق تخويل الأخير للولد والبنت أن “يفعلا (ن) بأنفسهما ما شاءا ولا كلام للوالدين فضلا عن الأقارب فضلا عن الحاكم”. أما من جهة حقوق الإنسانية، فالحرية المطلقة، بالمعنى “الفرنجي”، تهدم الحدود بين الإنسان والحيوان.
ولكي تأخذ وجهة نظر الناصري قوة حجاجية، نجده يسوق مجموعة من الاعتبارات، التي يمكن استنتاج أربعة أسس لها:
– العقل (الأخلاقي): الذي يميز الإنسان عما عداه من الحيوان، من جهة تحاشي الوقوع في الرذائل، وبالمقابل التحلي بالفضائل؛
– الشرف (العائلي): الذي يدفع الأُسَر إلى صون أعراضها، ولا سيما إذا كان ذلك متصلا بـ “ذوي البيوتات” (العائلات الكبرى)؛
لم يفت الناصري في “الاستقصا” أن اعتبر هذه الحرية من وضع الزنادقة، “لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا”.
– الطبع (الغريزي): الذي يجعل الإنسان ينفر “مما تأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنا وغير ذلك”؛
– النص (الديني): الذي حمّل الإنسان مجموعة من التكاليف الشرعية، بالنظر إلى تميزه بالعقل عن باقي المخلوقات “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض” الآية.
لقد كان الاصطدام بالآخر، الأوروبي القريب تحديدا، باعثا موضوعيا للنظر في موضوع الحريات الفردية. وتبدو لافتة للانتباه، من قِبَل البعض، تلك العودة المتجددة إلى التراث الإسلامي، بقصد البحث عما يعزز القراءة التقدمية لهذه الحريات.
والواقع أن ممارسة “الحريات” لم تكن تثار، حتى بالنسبة للقضايا الأكثر حساسية في المجتمع، إلا حين يكون هناك ضرر معين، يطلب أحد المتقاضين رفعه قضائيا.
إقرأ أيضا: أحمد المهداوي يكتب: مذاهب فقهية… أباحت الإجهاض!
هكذا، كان رد فعل الدولة بـ “التغاضي”، في معظم الأحوال، بالنسبة لشرب الخمور والإجهاض وإقامة “العلاقات” خارج الزواج. ولولا ما شهده المغرب، في السنوات الأخيرة، من حالات مُتابعة بعض الشخصيات السياسية، لظلت العلاقات الجنسية، مثلا، في حكم المُتغاضى عنها نظرا.
بعد المبادرة الملكية الإيجابية، وما تمّ إقراره في نص العفو، يكون أحد القيود التحفظية قد زال، لمباشرة التفكير الهادئ في مستقبل “الحريات الفردية” ببلادنا.
ها هنا، ينبغي الالتفات إلى السجينات الأخريات، اللائي مازلن يقبعن في السجون، وبذات التهمة: الإجهاض. فهل يتقدم المغرب خطوات، نظير ما هو قائم في تونس على الأقلّ؟