سحر وتناقضات دكار…الماما أفريكا التي نعاتب ونحب 3/3
مع وسائل التواصل الاجتماعي، نعيش عصر الإنسان الملحمي: الفرد القادر على الكتابة بكل اللغات في منشوراته، والسفر لكل الأصقاع، والتعليق على كل المواضيع، والأكل في أجمل المطاعم، وممارسة كل الأنشطة. هذا البراديغم الجديد يبخس تجربة السفر، ويجعل الغرض الوحيد منها، عند البعض، هو التقاط صور إنستغرامية (instagrammables).
أغلب زوار جزيرة غوري، وتمثال النهضة الأفريقية، لم يحركهم دافع اكتشاف تاريخ تجارة العبيد أو معرفة رهانات النهضة في القارة.
تابعنا في الجزء الأول، تفاصيل الرحلة من الصحراء المغربية إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط،
واقتفينا في الجزء الثاني، التفاصيل المثيرة للرحلة الشاقة من نواكشوط إلى دكار.
في هذا الجزء الثالث والأخير، نكتشف سحر العاصمة دكار… وتناقضاتها.
أيام في دكار… بين سحر بلد التيرنغا وشبح الهيمنة الفرنسية والفوارق الطبقية
رغم حلول فصل الصيف، تزامن مجيئي مع تهاطل الأمطار. جزء من المدينة غمرته برك المياه، وصعّب الوحل السير فيه.
في اختيار انتحاري، قررت قطع سبعة كيلومترات مشيا، جزء منها في الوحل، للوصول لتمثال النهضة الأفريقية.
درجة متوسطة للحرارة ورطوبة عالية. أجواء عسيرة تجعل الاستمتاع بالمشي صعبا دون الاستعانة بقنينات وأكياس بلاستيكية للماء تباع في الشوارع.
وأنا أنتحل صفة السوسيولوجي، تأملت كيف تلتصق ملابس السنغاليات بأجسادهن دون أن يجسر أحد على التحرش بهن، على عكس بعض الدول العربية، التي يصبح فيها لباس المرأة ذريعة للتطاول عليها.
تغزو شوارع دكار الشركات الفرنسة. شركة الاتصالات هي أورونج (Orange). كنال بلاس (+Canal) في كل طبق للأقمار الصناعية، ومحلات كارفور (Carrefour) هي السوق الممتاز للمدينة.
أدركت في هذه اللحظة سبب تمرد السنغاليين قبل سنوات قليلة على الهيمنة الفرنسية على اقتصاد البلاد.
أقنعت الكاميرا الإنسان أنه يمكن أن يخلّد لحظة دون أن يعيشها. على مقربة من تمثال النهضة الأفريقية، كان هَمّ السياح الوحيد هو التقاط الصور بمختلف الوضعيات و”البوزات”. لا تَكفّلُ شركة كورية شمالية بمشروع بناء التمثال يهمم، ولا الجدل حول عري الرجل والمرأة في النصب، مقارنة مع ثقافة البلد المحافظة، استرعى اهتمامهم.
كنت أهيم في المدينة دون وجهة محددة عندما صادفت مسجد الألوهية. موقع جغرافي رائع يجاور فيه المسجد أمواج البحر وقرية صيدٍ.
أطفال حفاة يتأملون البحر بعيون حزينة وتائهة. الإنسان يحمل منذ الأزل رغبة في أن يبتلع البحر همومه أحزانه !
رافقني سائح نرويجي إلى جزيرة غوري. عندما أخبرني أنه زار 98 دولة، تساءلت في نفسي: لماذا سافر لكل هذه الأصقاع، ولم ير فيّ سوى مطية للتواصل مع السنغاليين لأنني أتقن اللغة الفرنسية؟ الحياة لغز كبير!
ارتكبت في الجزيرة كبيرة من الكبائر عندما تفاوضت على ثمن كتاب. وقبل ساعات من هذا الموقف، سقطت في السفينة التي نقلتنا من دكار إلى غوري، لأن جسدي غير الرياضي لم يقوَ على مقاومة قوة الأمواج العاتية. لا بأس ! أنا مجرد إنسان وأحتفظ لنفسي بحق أن أكون سخيفا !
لم أفوت فرصة زيارة جزيرة نكور (N’gor) الساحرة. بائعات الهوى هناك يعرضن خدماتهن بأثمنة بخسة. سباحة جماعية مرحة لأطفال ونساء يتمرغن في المياه بفرح عابث وطفولي (وكأنها عادة… رمقت نفس المشهد في شاطئ يوف Yoff).
في مشهد سوريالي، طلب مني أحد سكان الجزيرة دفع تعويض (laissez-passer) مقابل التجول والاكتشاف، لأنني رفضت أن يكون لي مرشدا سياحيا!
خلاصات سفر عسير ورائع
صراحة، نقلت ما شهدت بصدق، دون أي رغبة مرضية في الانتقاد، أو ملاحظة متعالية لواقع دول أفريقية أقل تطورا من المغرب.
لقد كان مغني الراب ديزي دروس صادقا عندما قال إن “نقيض الحب هو اللامبالاة”، تأملاتي نابعة من حبي لأفريقيا، والحسرة على واقع قارة أتوق لكي تعيش فقط ما تستحق هي وشعوبها، وتتوقف عن تذيل التصنيفات وتصدر السيئة منها.
مع وسائل التواصل الاجتماعي، نعيش عصر الإنسان الملحمي: الفرد القادر على الكتابة بكل اللغات في منشوراته، والسفر لكل الأصقاع، والتعليق على كل المواضيع، والأكل في أجمل المطاعم، وممارسة كل الأنشطة. هذا البراديغم الجديد يبخس تجربة السفر، ويجعل الغرض الوحيد منها، عند البعض، هو التقاط صور إنستغرامية (instagrammables). أغلب زوار جزيرة غوري، وتمثال النهضة الأفريقية، لم يحركهم دافع اكتشاف تاريخ تجارة العبيد أو معرفة رهانات النهضة في القارة.
وأنا أقلّب ذكريات هذا السفر، أستحضر أيضا الاستياء الذي شعرت به جراء المفاوضة اليومية لسائقي التاكسي في دكار على ثمن الرحلات. هذا النوع من الممارسات متفش، سواء في شمال القارة أو غربها.
عند اتهام الأنظمة، وفرنسا، والغرب، بالحيلولة دون نهضة حقيقية لأفريقيا، يجب ألا نتغافل مسؤولية المواطنين أنفسهم. تواتر الشهادات عن عمليات الاحتيال في معبر روسو الحدودي بين موريتانيا والسنغال من شأنه تثبيط الراغبين في قطع هذا المسار الساحر من المغرب إلى للسنغال.
انتهت رحلتنا. يحز في نفسي أن أقول “وداعا”.
في انتظار سفر آخر… من فضلكم ومن فضلكن، لا تنسوا ولا تنسين أبدا، أن السفر هو الفرصة الأخيرة للإنسان لكي يكون متأملا… وسعيدا!
- لقراءة الجزء الأول: من المغرب إلى السنغال براً… رحلة نحو التعب والجمال 1/3
- لقراءة الجزء الثاني: من نواكشوط إلى دكار… شاعرية متاعب السفر في أفريقيا 2/3