من المغرب إلى السنغال براً… رحلة نحو التعب والجمال 1/3 - Marayana - مرايانا
×
×

من المغرب إلى السنغال براً… رحلة نحو التعب والجمال 1/3

ونحن نخترق الصحراء بحافلة صغيرة، تسلمتنا في الطريق كبضائع، رمقت من النافذة أطول وأبطأ قطار في العالم. يبلغ طوله كيلومترين، ويقطع أكثر من 700 كيلومترا، من نواذيبو إلى الزويرات، في حوالي 20 ساعة.
 عندما كانت الشمس تسحب خيوطها الأخيرة، فاجأني الركاب الموريتانيون بتسارعهم الوقور للتوقف وأداء الصلاة على زرابٍ من رمال.

“We travel, some of us forever, to seek other states, other lives, other souls.”

 Anaïs Nin

”ماما ماما، أنعيش جوال، وداير صاكي في كتافي، وباغي نعرف حق الرجال…”[1]، وحدها “أمنية” سعيد موسكير كانت رفيقتي حين عزمت على السفر وحيدا… من المغرب إلى السنغال برا.

أظن أن هذا القرار جاء بتحريض من اندفاع المغامرة، وتلك الرعشة التي انتابتني وأنا أشاهد مغاربة شجعان، شاركوا في برنامج الواقع “دكار- فاس إكسبريس”، لملامسة الجذور التي تربط المغرب بأفريقيا.

بين استفزاز الجمركي الموريتاني، الذي طلب مني موقفي من الصحراء المغربية، قبل تسليمي جواز السفر في معبر روسو، ونبل سنغالية تقترح غسل ملابسي مجانا لأن الأفارقة، بالنسبة لها، كلهم إخوة، تتأرجح ذكرياتي المتناقضة (مثل تناقض أفريقيا) لرحلة قرابة الألفي كيلومتر من مدينة العيون إلى دكار.

الحياة صور، والصور ذكريات، والذكريات هي تاريخ الإنسان. أما الحنين، فهو النبش في الألبوم الوهمي الذي ينبع وجوده من رغبة البشر الأبدية في تخليد أعمق لحظات حياتهم واستذكارها.

ما أحتفظ به من هذا السفر هو صور:

شهادات العذاب المكتوبة لضحايا “بيت العبيد” في جزيرة غوري  (Gorée).

تركيز سائحين يلتقطان الصور على شفتيهما أكثر من ضخامة تمثال النهضة الأفريقية في دكار.

تأمل أطول قطار في العالم في الطريق إلى نواكشوط.

التوقف التعبدي للمسافرين الموريتانيين في قلب الصحراء لعدم تفويت موعد الصلاة.

وصور أخرى… هائلة، سنأتي على ذِكرها.

استراحة مسافر.. تأملات في نواكشوط

بداية كلاسيكية للرحلة. سفر من مدينة العيون إلى الداخلة. الصور الحالمة لهذه المدينة تُلتقط بعيدا عن مركزها ومجالها الحضري. إنه تضليل شاعري جلب سياحاً كثر لهذه المدينة-الجزيرة. غير ذلك، هي مدينة صغيرة، عادية، وآمنة، باستثناء تلك اللحظات التي ترمق فيها كلابا يتسكعون في بعض الأحياء.

في الداخلة، يمكن أن تستمتع بما يجود به البحر من نسائم وأسماك، وأن تمارس في الكورنيش المشي والهواية الأبدية للفرد: الجلوس بأمان وتأمل أخيه الإنسان.

صباح اليوم الموالي، قبالة الكورنيش، حملتنا حافلة “السوبراتور” في رحلة إلى معبر الكركارات.

توقفٌ للأكل ثم إجراءات سلسة. ختمُ مغادرة المغرب قبل أن تستلمنا الحافلة الصغيرة لشركة ”المسافر” الموريتانية لتنقلنا إلى العاصمة نواكشوط في حافلة صغيرة.

السطور التي ستُكتب بعد هذه الفقرة ستحمل لكم طرائف ومتاعب السفر في أفريقيا. فاستمتعوا… واحذروا !

أول الغيث: سلمني الأشقاء الموريتانيون تأشيرة بملامح وجه ضبابية، يصعب التمييز فيها حتى إن كنت ذكرا أم أنثى !

القطار الرابط بين نواذيبو والزوزيرات
القطار الرابط بين نواذيبو والزوزيرات

ونحن نخترق الصحراء بحافلة صغيرة أخرى، تسلمتنا في الطريق كبضائع، رمقت من النافذة أطول وأبطأ قطار في العالم. يبلغ طوله كيلومترين، ويقطع أكثر من 700 كيلومترا، من نواذيبو إلى الزويرات، في حوالي 20 ساعة.

عندما كانت الشمس تسحب خيوطها الأخيرة، فاجأني الركاب الموريتانيون بتسارعهم الوقور للتوقف وأداء الصلاة على زرابٍ من رمال.

أعجبني التمسك الجميل للموريتانيين بأداة الصلاة في قلب الصحراء، وأمام القنصليات، وبوابات محلات البيع. تشعر أن تدينهم صادق… أكثر من الموت.

موريتانيا، البلد الشقيق، الساحر بطيبة أهله، وشغفهم بالشعر، وتفرده بمحميات هائلة مثل آرغين.

ما أكثر الأشياء الساحرة في هذه الأرض: العديد من اللهجات واللغات (حسانية، فرنسية، ولووف)، سكان من بلدان أفريقية مختلفة (موريتانيا، السنغال، المغرب، مالي..)، عوامل تعطي رونقا لنواكشوط، وبعدا إفريقيا عميقا وأصيلا لا نلمسه عادة في بلدان شمال إفريقيا.

في المقابل، هي دولة تختزل كل تناقضات أفريقيا، وأوجاعها الدفينة. رغم الثروة السمكية والمعدنية الهائلتين، تكشف جولة صغيرة في شوارع نواكشوط “تأخر” البلد: الذباب والحشرات تملأ المدينة، برك مائية عملاقة تغلق العديد من الشوارع، والأنكى، انعدام سيارات أجرة، وتعويضها بسيارات مهترئة. أما بعض الحافلات، فهي بدون نوافذ… صدئة، وعارية تداعب الريح.

أكثر مكان ساحر في المدينة هو ميناء الصيد التقليدي. تزهو العين بقوارب الصيد الملونة، جميلة التصميم والشكل الهندسي.

العشرات من الصيادين، من جنسيات أفريقية مختلفة، يجرُون بصرامة (الابتسامات نادرة) وراء قوت يومهم. يدفعون القوارب بعد أن يثبتوها بإقدام تحت عجلة للبحر.

هناك شيء غامض في نظراتهم. يفكرون ربما في امرأة أو هجرة أو وطن.

أخبرني أحد الصيادين أن القوارب تعود في حدود الخامسة بعد الظهر، محملة بغنائمها السمكية، في مشهد ملحمي يثبت أن أفريقيا هي مصنع كبير لرجال مكافحين وشجعان.

هناك تناقض صارخ بين العدد الهائل للسيارات رباعيات الدفع والسيارات المهترئة والمحطمة… مثل حلم أزلي يلفظ أنفاسه الأخيرة. الأثرياء يرتدون دراعات جميلة ويمتطون سيارات فارهة، وبعض الأطفال والمراهقين غارقون في أسمالهم. صحيح أن التفاوتات الطبقية لا تسلم منها حتى أغنى هذه الدول، لكنها في نواكشوط تبدو صارخة… ومؤلمة !

من أكثر الأشياء المدهشة، تعامل السكان بعملتهم× 10: إن قال لك مواطن موريتاني 100 أوقية فهو يقصد 0100 أوقية.  جعل هذا التفصيل من تبضعي تمرينا عبثيا في الرياضيات.

 

[1] – سأعيش كرحالة، حملت حقيبتي على كتفي يا أمي وبدأت رحلة لأعرف ما معنى أن تكون رجلا !

 

. لقراءة الجزء الثاني: من نواكشوط إلى دكار… شاعرية متاعب السفر في أفريقيا 2/3

. لقراءة الجزء الثالث: سحر وتناقضات دكار…الماما أفريكا التي نعاتب ونحب 3/3

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *