مليكة السرساري… حكاية أبشع عملية حرق في المغرب
في تسعينيات القرن الماضي، ستهتزّ ضمائر وقلوب المغاربة، بما فيها قلب الملك الرّاحل الحسن الثاني، بواقعة مليكة السرساري التي تمّ إحراقها من طرف شخص كان قريبا منها. ومنذ ًذلك الحين، صارت مليكة تلقّب بـ”أشهر حريقة بالمغرب”.
في لحظة غضب، أحرق الجاني مليكة وجعل حياتها تتحطّم بالكامل. هي حكاية تكشف كيف يمكن لأنانية ناجمة عن ذكورية سامّة أن تنسف مستقبلا واعدا لإنسانة مجدة ومستقيمة بشهادة أساتذتها ومعارفها. لنعتبر هذه القصة بمثابة نموذج لكيف يعتبر جزء من الرجال المرأة التي تواعده، ملكا موقوفا له ومن حقه أن يتصرف فيه كما يشاء. إنها قصة بمعادلة كبيرة: محنة امتلاك النساء!
القصة… المأساة
أصل مأساة الشابة مليكة السرساري، التي كانت حينها تدرس بثانوية عبد الكريم الخطابي بالرباط، أنّه في تلك الفترة من تسعينيات القرن العشرين، كان هناك شخص يدعى (ت.ع) يطاردها ويرغب في مواعدتها، وهناك روايات تقول إنه كان خطيبها. هذا الشخص حسب رواية السرساري كان يطاردها بشكل مزعج، حتى جعلها طريدة مذعورة.
المعلومات المتوفرة عن “ت.ع” تشير أنه درس إلى غاية الخامسة ابتدائي، انتقل إلى البادية، ثمّ عاد لممارسة التجارة بقيسارية تخفيض رضا إلى جانب والده حين انتقلوا إلى العاصمة الرباط. هذا الشخص يقطن في نفس الحيّ (حي القواس) الذي تسكنه مليكة، ويتحمل أعباء أسرته.
بدأت حكايتهما على شكل صداقة سنة 1993، حيثُ عبّر “ت.ع” لمليكة عن مشاعره، وأخبرها أيضا أنه موظف بوزارة الفلاحة، وأن لديه مستوى تعليميا عاليا، وأنه يمارس التجارة رفقة والده إلى جانب الوظيفة… ليتطور الأمر بعدها إلى علاقة ووعد قريب بالخطوبة، بعلم والدي مليكة وقتئذ.
ملخّص كلّ هذه الحكاية القاسية، أنّ مليكة السرساري التي كانت متفوّقة في مسلك العلوم، ستصبحُ على كلّ لسان في محيطها يوم 16 نونبر 1994؛ فبمجرّد مغادرتها الثانوية، باغتها “ت.ع”، وصبّ عليها بنزينا قابلاً للاشتعال، ثمّ أضرم النّار في جسدها في وضح النهار وأمام أعين الملأ من زملائها وزميلاتها وأساتذتها.
… ثمّ غادر وتركها تعاند الموت، بينما اللهيبُ يلتهم كلّ مكان من جسدها، حتى كاد يقتلها.
في رواية عائلة الجاني، يقولون إنّ المتهم فعل ذلك بدافع الغضب جراء تبدّل مزاج مليكة تجاهه عندما تعرضت محلاته التجارية لحريق التهم كلّ السلع فيها. لكن، حسب رواية مليكة السرساري، فإنها شعرت بالبرود تجاهه حين اكتشفت أنّه كذب في كونه موظفا بوزارة الفلاحة.
الجاني، حين أدرك أنّ مليكة بدأت “تضيع منه” شيئاً فشيئاً، قرر إقناعها بتناول فنجان قهوة معا لمناقشة الوضع، لكنه وضع داخل كأسها قُرصاً منوّما، فلم تستيقظ لمدّة يومين.
طيلة اليومين، كان “يحتجزها” داخل بيت يعود لعائلته بتمارة. وحين استيقظت، حاول إقناعها بأن تهرب معه إلى طنجة، بما أن غيابها عن المنزل لمدة يومين لن يمرّ مرور الكرام، وسيكلفها مشاكل كثيرة مع عائلتها. لكن مشكلة “الاختطاف” هذه جعلت مليكة تنفر منه بشكل صارم هذه المرة.
ستزداد الأوضاع سوءاً بينهما، وسيضطرّ إلى تعقّبها، وأحيانا تعنيفها بسبب الإحباطات المتتالية، ما سيدفعها لوضع شكاية عند الشرطة.
عندما علم بوجود الشّكاية، وأنّ مصالح الأمن تبحث عنه، لاذ بالفرار نحو مسقط رأسه في البادية، واختفى هناك لفترة من الزمن. وحين قرر العودة للرباط، اتصل بمليكة لتهدئة الأوضاع وإعادة المياه إلى مجاريها؛ غير أنّ رفضها كان حاسما ونهائيا، ما جعله يفقد الأمل بصفة مطلقة ويفكر في الثأر… من خلال إحراقها.
تفاصيل الحرق
حين أحرقها في ذلك اليوم “المشؤوم”، سقطت مليكة على الأرض في الحين وفقدت الوعي، ولم تستفق إلاّ عندما كان رجال الإسعاف ينتزعون يدها من الأرض، بحيث التصقت اليد المحروقة بالأسفلت. بعدها، دخلت في غيبوبة، واستفاقت في مستشفى ابن سينا بالرباط وهي منزوعة الثياب.
لم يحضر وعيها كاملاً في المستشفى، وفق ما حكته السرساري فيما بعد، لكن مسامعها التقطت أصواتاً بقربها تقول: “مسكينة محالش تعيش” (المسكينة ربما لن تعيش)، ولكنها عاشت… تكابد الموت.
نجت مليكة السرساري من الموت وقتها، ولكنّ المؤسف أنّ عملية الحرق خلفت إصابات وحروقا بالغة الخطورة من الدرجة الثالثة، في الوجه خصوصا، وفي باقي الجسد، بحيث فقدت أصابع يدها.
غير أنه، بحكم عدم توفر معدات طبيّة بمستشفى ابن سينا، تمّ نقلها لمدينة مكناس لمستشفى محمد الخامس، بحيث ستتلقى العلاج على يد طاقم صيني هناك. لكنّ السرساري قالت إنّ العلاجات بمكناس كانت تقليدية إلى حدّ ما، ثمّ انتقلت لمستشفى مولاي اسماعيل بمكناس لإجراء الترويض الطبي.
في ذات المستشفى، ستلتقي أستاذ اللغة العربية أحمد الأخضر غزال، الذي سينقل إليها نبأ سارّا بأنّ ثمة محسنا سيتكفل بعلاجها ماديا بمصحة كبيرة وذات مصداقية بالدار البيضاء.
لكن، حسب ما ترويه السرساري، فإنّه حين صعدت سيارة الإسعاف بصحبة والدتها، انتهى بهما المطاف في مستشفى ابن رشد بالدار البيضاء، عوض المصحة التي وُعدت بها. أحبطها ذلك في البداية قبل أن تلتقي بالبروفيسور حسن بوكيند الذي كان رئيسا للقسم 34 بمستشفى ابن رشد.
رحلة العلاج
البروفيسور حسن بوكيند يحكي لمرايانا أنّ مليكة السرساري، بعد مجيئها للدّار البيضاء، قضت حوالي ستّة أشهر بمستشفى ابن رشد بذات المدينة، مبينا أنه “كانت حين وصولها إلينا في حالة جد متقدمة من درجة الخطورة، بحيث فقدت يديها وجزءا كبيراً من وجهها نتيجة التهام الحريق لها”
ويضيف أنه “خلال ذلك الوقت، كانت العلاجات تسير بوتيرة جيدة وبإشراف ومواكبة من طاقم طبي متخصص، وفي النهاية تمكنا من علاج الوجه وتعديل ملامحه جراحيا”.
البروفيسور بوكيند يقول أيضا، في حديثه إلينا، إنّهم، حين أرادوا المرور لعلاج الأيدي، ذاع الخبر بالمغرب حينذاك، بعد تداول الواقعة في الصحافة الوطنية، فدخل الملك الرّاحل الحسن الثاني على الخطّ، وأمر بنقلها للعلاج بفرنسا. رافقها البروفيسور بوكيند إلى فرنسا لكي يشرح للأطباء الفرنسيين حالتها.
قضتْ ثلاثة أشهر هناك. وفي فرنسا تم تعديل أنفها مجددا، كما تمت إزالة التشوهات عن يديها. وبعد أن أتمت العلاج بالديار الفرنسية، عادت إلى المغرب وظلت على تواصل مع البروفيسور.
البروفيسور يعرب عن سعادته بما أنّ “مليكة السرساري بعد ذلك، تمكّنت من الاندماج نسبيا بالمجتمع، حيثُ تزوّجت وأنجبت أطفالاً”، رغم أن البروفيسور يؤكد أنّ “العديد من الآثار لازالت بارزة على جسدها وملامحها، وسيؤثر ذلك على صحتها النفسية بشكل أو بآخر، لكن الأساسيّ أنها منخرطة في حياتها الآن كأي مغربية، وتستطيع أن تمارس العديد من الأنشطة الروتينية باستعمال يديها”.
كخلاصة، يعلّق البروفيسور بوكيند بأنّ “واقعة مليكة تبقى فريدة في العقود الأخيرة، بحيث تأتي إلينا حالات كثيرة لمحروقين ومحروقات، لكنّ حالة مليكة كانت الأخطر من بينها والأكثر عنفا والأكثر وجعا بالنسبة لنا جميعا، بما أننا كانت لنا علاقة مباشرة بعلاجها”.
كما يضيفً أنّ “مثل هذه الأحداث متداولة في باكستان والهند، بأن يقدم رجل على إحراق امرأة، لكن حالة مليكة كانت الوحيدة من نوعها في المغرب، حيث يقدم خطيب أو حبيب على إحراق خطيبته أو شريكته أو حبيبته السابقة. لكن علاقتنا بها كانت طبية وإنسانية أكثر”.
في النهاية، تمّ الحكم على الجاني بالمؤبد، لكن المثير في كل هذه الحكاية أنه من بين الدفوعات التي تقدم بها دفاع المتهم أن الضحية كانت خطيبته! فهل كونها خطيبته يبرر إحراقها بعد أن تقرر بإنهاء تلك الخطوبة تحت أي ظرف كان بما أنه خيارها حصراً؟
… ألم يفهم المتهم وعائلته ودفاعه أنّ لمليكة الحقّ في الاختيار ووضع نقطة نهاية لعلاقة أو خطوبة صارت تبدو لها مكلّفة أو عنيفة وغير ممكنة وغير مناسبة لأفق مستقبلها؟
مقالات قد تثير اهتمامك:
- القسوة: كيف يستطيع الإنسان أن يرتكب الفظاعات؟ 1/3
- أبو العباس “السفاح” ونبش قبور بني أمية… حكاية “إعدام” الموتى!
- دولة “الإسلام”: من العدل والرحمة إلى الجور والاستبداد… حكم “السفاح المبيح” 3/3
- الجعد بن درهم: جعله خالد القسري أضحية في العيد
- العصر الذهبي للدولة الإسلامية… التاريخ الديني 1/4