المدفونة “الفيلاليّة”: التعبير الأسمى لكرم الفيلاليين في جنوب شرق المغرب 2 - Marayana - مرايانا
×
×

المدفونة “الفيلاليّة”: التعبير الأسمى لكرم الفيلاليين في جنوب شرق المغرب 2\2

تشكّل ثقافة الطّبخ الفيلاليّة من خلال المدفونة، عمليًّا، جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ هذه الثّقافة الممتدّة، في كبرياء أناسها وكرمهم وبساطتهم.
في النهاية، أضحت ثقافة الطبخ الفيلالية قادرة على خلق نموذجها الخاص من خلال المدفونة، وهو النموذج الذي يميزها ويعطيها امتدادها الوجودي والهوياتي واستمراريتها التاريخية؛ فالمدفونة علامة مميزة لهذه الثقافة الخصبة، و، أساسًا، ماركة مسجلة… لتافيلالت حصراً. فأهلاً بكم في مطبخ الهامش.

في هذا الاستطلاع، تحاول مرايانا استقراء خصوصية المطبخ الفيلالي (نسبة إلى تافيلالت)، عبر الوجبة الأشهر في مدينة الريصاني بالجنوب الشرقي: المدفونة.

كنا قد تابعنا في الجزء الأول مكونات المدفونة وكيفية التفوق في صناعتها داخل أفق الفيلاليين، ثمّ رصدنا بعضا من تاريخ هذا الطبق قبل أن يخرج للسّوق.

في هذا الجزء الثاني، نقدّم قراءة ممكنة في القيمة الغذائيّة الاختزاليّة للمدفونة، وكذلك قراءة سيميائية للخطاب الثقافي الذي تشكله المدفونة في عملية التواصل مع الزوار والعابرين.

وجبة مختصرة 

المدفونة وجبة مالحة، وأحيانا شديدة المُلوحة أو متوسطة الملوحة. نتذوّقها ثم نقصد الباحث في الثّقافة المحلية، عبد الرحمن أحميداني، ليساعدنا في سبر أغوارها أنثروبولوجيًّا.

أحميداني يرى أن المدفونة، ابتداءً، هي وجبة مميّزة للمطبخ الفيلالي، مثل نظيرتها الطّنجية بمراكش. من السّهل جدًّا، هنا، الرّبط بين الأكلة وموطنها الذي تدخل جغرافيته ضمن مكوّناتها.

المشهور أنها لا تستوي إلا في تافيلالت ولا يمكن لمن هيَّأها خارج أرض تافيلالت إلاّ أن يلاحظ أنها لا تحظى بالذّوق والنّسمة الذين يميزانها عندَما تحضر في هذه المنطقة الهامشيّة. قد يكون السبب راجعا للبهارات التي تحتلّ مكانة مهمة في نكهة المدفونة. لذلك، يكثر منها الفيلاليّون”.

يضيفُ احميداني “المدفونة أكلة تجسّد طابع الاختصار، حيث يجتمع في حجمها الصغير ما يمكن، لو جُزئ، أن يعطي كثيراً من المكوّنات: كالخبز، الخضر، اللّحم، البيض، اللوز… لذلك، فإن من أكلها لا يحسّ بالجوع إلاّ بعد مدّة طويلة لأنها مركزة العناصر. المدفونة، بهذا المعنى، تعفيك من جهد كان يمكن أن يكون مضاعفًا لو حضّرت كل شيء بمفرده، في محاولة لتحصُل في النهاية على مائدة ممتلئة.

ولعلّ هذا، بالضّبط، وفق ما يفصله احميداني لمرايانا، “ما جعل المدفونة تعدّ أسمى أشكال الكَرم في المنطقة. فإذا حضّرت المدفونة لضيفك، فأنت تحتفي به، ثقافيًّا وتدمجه في بيئتك. ولقد شاع في المنطقة أنك إن وضعت مثلاً طبقًا من الدّجاج دون اللّحم بالبرقوق، مثلاً، أو العكس، فهذا، حتمًا، معيب في حق كرمك، وفق أنماط وأعراف تفكير المنطقة. بينما المدفونة، ورغم أنّها وجبة واحدة، فهي تجعلك تفتخر أمام ضيوفك، لأنك قدمت لهم أفضل ما يوجد… في ثقافتك الغذائيّة”.

من الواضح أن المدفونة خرجت من مطبخ الأسر بتافيلالت وخيام الرّحل بأسامر، وأصبحت تعدّ في السوق. لذلك يشرح لنا سكان المنطقة أنّه حين عُرفت هذه الوجبة في السّوق، ظهرت محلاّت خاصة تحضّرها للزبناء في مدينة الريصاني. ويرجح الفيلاليون أن ذلك مرتبط بالتّحولات البطيئة التي طرأت على المجتمع الفيلالي.

للتّذكير، فالذكر هو من يتولى أمر إعداد موائد الإطعام في المناسبات الكبرى، كالأعراس مثلاً. وبما أن المدفونة لم تكن شعبية إطلاقا، فهناك من “تحايل” على هذه المائدة وأخرجها من داخل الأسرة، وسوّقها وأخضعها للعلاقات التبادلية بسوق الريصاني بالتحديد، وأصبحت ناجحة ومتداولة تجاريًّا.

في بداياتها الأولى بالسوق، تم تهيئ محلات خاصّة لإعدادها، وكان الرّجال هم الذين يقومون بذلك؛ حتى أن الجزارين كانوا في البداية يتفادون القيام بذلك، ويكتفون ببيع اللحم فقط. المحلات التي كانت تعدها هي عبارة عن أفرنة تقليدية تتكلف بإعداد العجين وعملية الخبز.

العائلات التي كانت تمتهن هذه الحرف معروفةٌ بالمنطقة. لكن اليوم، أصبحت المدفونة تهيأ بصفة حصرية عند الجزّار، وأصبحت تعدّ حتى باللّحوم البيضاء في السنين الأخيرة لأصحاب الحميات/ “الرّيجيم”؛ وذلك رغم تحفّظات أهل المنطقة على “المسخ”، الذي طال روح المدفونة وشكلها.

المدفونة سيميائيا؟ 

يحاول الجامعي والباحث في السيميائيات الثقافية، عبد الله بريمي، أن يُفصل في “البناء الثقافي” للمدفونة، بشكل يتجاوز كل الاعتبارات اليوميّة. لهذا، يعتبر بريمي أنه “من الأساسيّ محاكمة علامات ودلالات هذه الثقافة، والذي يرقى إلى ما أسماه أومبرتو إيكو بالسميائيات الناجعة والفعالة؛ فنحن ندرك مسبقا أن الطعام لغة دالة ولها شفرات خاصة، لكنه في الوقت نفسه قادر على نقل وترويج قيم وصياغة نماذج لعلاقاتنا وطريقتنا في التعامل والتواصل والتّفكير”.

بناء على ذلك، يتساءل بريمي: ما هي، مثلاً، القيم المرتبطة ببعض الأطباق الرئيسية في المطبخ الفيلالي؟ وكيف يمكننا مقاربة هذا المطبخ من خلال أكلة “المدفونة” بطريقة سميائية من أجل ترسيخ بعض ثوابت الثقافة المغربية نفسها عامة والفيلالية على نحو خاص؟ وما هي المكانة التي يحتلها الذوق الرفيع والصحة العامة في متخيّل الطاولة الفيلالية؟ بل كيف تصير المدفونة مرتبطة ببناء الهوية الفيلالية في تعدد معاني الطعام؟  وكيف تندمج الخطابات الإعلانية التجارية المغربية اليوم مع تلك التي تروّج لمنتجات التغذية المحلية؟

يعدّ المتحدث، في حديثه إلينا، المدفونة آلية لفهم دور الاتصال في التجارب الغذائية اليومية، فالوجبة، هنا، “أكثر من مجرد مسألة تتعلق بالصحة العامة؛ إنها أيضًا مسألة التفكير في التفاوض على العيش معًا من خلال الطعام. وبما أن السميائيات علم يهتم بدراسة وتأويل العلامات داخل الحياة الاجتماعيّة وبدراسة الخطابات والنّصوص التي تتحدث عن ثقافة الطبخ وفنياته، وتعطيه كافة تحقّقاته وتمثيلاته، سواء في أذواقه أو في الطّريقة، التي يقدم بها أطباقا للضّيوف مثلا، فإننا ـ للأسف ـ لا نجد في تراثنا الأدبي والفني أشكالا تعبيرية أو فنية مكتوبة أو مرسومة أو مغنّاة كتبت عن المدفونة الفيلالية وروّجت لها، بل كل ما قيل حولها هو ممارسة شفهيّة توارثها الأجيال”.

بالنسبة لأستاذ السيميائيات بجامعة مولاي اسماعيل، فإنه، اليوم، وفي ظلّ تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الرقمية، أصبح الترويج لها من قبل خبراء التغذية وأرباب المطاعم في المدن المغربية الكبرى أمرا بالغ الأهمية والتأثير، بحيث نجد من يرادف بين المدفونة الفيلالية والبيتزا الإيطاليّة وهي مقارنة لا أساس لها من الصحة، والفرق بينهما كبير جدا شكلا ومحتوى. المدفونة قبل كل شيء، شكل من أشكال التواصل الإنسانيّ. وليس ترفاً أن نجد “المدفونة الفيلالية” حاضرة في لائحة أحد أكبر المطاعم التّقليدية بالعاصمة الرباط. فهذه الوجبة حلّقت من هامش الهامش إلى مركز المركز.

لذلك، تشكّل ثقافة الطّبخ الفيلاليّة من خلال المدفونة، عمليًّا، جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ هذه الثّقافة الممتدّة، في كبرياء أناسها وكرمهم وبساطتهم. هنا، يجمل بريمي بأنّه بعد كلّ الأشواط التاريخيّة التي قطعتها المدفونة، إلى أن أصبحت أكلة معروفة بثقافة ما، فقد استطاعت، كصوت قادم من هامش المغرب، أن تفرض نفسها على نسق الطبخ المغربي لتصبح في متناول العامة.

في النهاية، أضحت ثقافة الطبخ الفيلالية قادرة على خلق نموذجها الخاص من خلال المدفونة، وهو النموذج الذي يميزها ويعطيها امتدادها الوجودي والهوياتي واستمراريتها التاريخية؛ فالمدفونة علامة مميزة لهذه الثقافة الخصبة، و، أساسًا، ماركة مسجلة… لتافيلالت حصراً. فأهلاً بكم في مطبخ الهامش.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *