المدفونة “الفيلالية”: حكاية مطبخ الهامش الذي أبهر المغاربة والأجانب… 1 - Marayana - مرايانا
×
×

المدفونة “الفيلالية”: حكاية مطبخ الهامش الذي أبهر المغاربة والأجانب… 1\2

المدفونة، أو “البيتزا البربرية” كما يحلو “للبعض” نعتها، أكلة صارت من علامات المطبخ المغربي، لكن…
كيف دخلت هذه الوجبة إلى أفق الفيلاليين؟ كيف صارت جزءا من هوية ساكنة مدينة الريصاني المتواجدة في الجنوب الشرقي للمغرب؟
كيف تعدّ هذه الوجبة؟ وهل هي وجبة فقط أم علامة معبّرة على ثقافة الفيلاليين وخصوصيتهم المجتمعية؟ أسئلة وأخرى، تتابعها مرايانا في هذا الاستطلاع.

“المدفونة… من أجمل المأكولات التي أكلت. فائقة اللذة. كنت معتقدا على الدوام بأن مطبخ الأماكن المغمورة دائما يتصف بشيء نادر، وهذا ينطبق على المدفونة. الحرص على وضع البهارات يعكس احترافية عالية لدى الساكنة في تحضيرها. هم يعتقدون أنّه لا أحد بوسعه منافستهم في إعدادها، وهذا طبيعي بالنّظر إلى أن هذه الوجبة لم أصادفها قطّ في مكان آخر. إنها ابنةٌ للمطبخ الفيلالي، وصارت هذه “البنتٌ” جسراً يمرّ عبره الفيلاليون لوجدان كلّ من زار هذا المكان”.

هكذا تحدّث زائرٌ لمدينة الرّيصاني صادفته مرايانا في الفرن التقليدي وسط المدينة. ليس هذا الزائر وحده من وقع في غرام المدفونة، أو “البيتزا البربرية” كما يحلو “للبعض” نعتها.

روائح “حشوة” المدفونة منتشرة في الفرن: لكن… يظلّ السؤال قائما على الدوام: كيف دخلت هذه الوجبة إلى أفق الفيلاليين؟ بل، كيف صارت جزءا من هوية ساكنة مدينة الريصاني المتواجدة في الجنوب الشرقي للمغرب؟ كيف تعدّ هذه الوجبة؟ وهل هي وجبة فقط أم علامة معبّرة على ثقافة الفيلاليين وخصوصيتهم المجتمعية؟ أسئلة وأخرى، تتابعها مرايانا في هذا الاستطلاع.

تمفصلُ الحُشوة 

هنا… نحن الآن في الريصاني… المكي الذي اشتهر بتحضير المدفونة بالمدينة لازال غارقا في طلبات الزبائن. المكي ليس جزاراً، أو ربما كان، لكنه نافس الجزارين في احتكارهم لصنع المدفونة حتى صار ممسكا بناصية “صناعتها”.

يفرم المكي البصل ويتحدث إلينا موضحا أنّه “بدأ في تحضير المدفونة منذ سنوات طويلة، بحيث لم يرد أن يفتح محلا للجزارة ويعد المدفونة، بل ارتأى أن يحرص على عدم الخلط، وأن يتخصص فقط بالمدفونة”. ثم يقول: بالفعل، المدفونة بالمدينة هنا تعدّ من طرف الجزار حصراً، مثل الطّنجية بمراكش في حالات كثيرة، ويتقنها أيضا الرجال أكثر من النساء.

يحدثنا المكي عن مكونات المدفونة، فيقول: الأساسيّ طبعا هو اللحم، والزبون هو الذي يحدد حجم المدفونة التي يريد، فالصغيرة تتضمن زهاء النصف كيلوغرام من اللحم؛ والمتوسطة تشمل ثلاثة أرباع الكيلوغرام الواحد، والكبيرة تحتوي على قرابة الكيلوغرام أو أكثر من اللحم”. من ثمّ تتحدّد الأثمنة التي تتراوح، حسب المكي، “من 50 حتى 120 درهما، أي من الصغيرة التي يتناولها شخصٌ أو شخصان إلى الكبيرة التي تكفي لإطعام ستة أشخاص. كما هناك مدفونة ثمنها 70 وأخرى 80 درهما، وهي مدفونة متوسطة الحجم”.

المتحدث يفيد أيضا أنّه “إلى جانب اللحم، من الضروري إضافة البصل وبعض “الشحمة”، ونضيف الجوز حسب اختيار الزبون؛ كما هناك من يضمّن حشوة المدفونة البيض المسلوق، القزبر والبصل وكثيراً من البهارات، ثمّ يتم خلطها حتى تتجانس كل مكوناتها وتفرز التوابل مفعولها”. ويواصل المكي: نبعثها للفرن، وهو من يتكلف بإضافة العجين، ونذكر أن ثمن الطهي متضمن في الثمن الذي ذكرته؛ مما يعني أن الزبون لن يكون مطالبا بدفع أي ثمن للفرن. نحن نتعامل مع الفرن بشكل مُباشر، والزّبون بتعامل معنا. تبقى المدفونة في الفرن زهاء نصف ساعة. بالتالي، فإن التحضير والطهي، بالمجمل، يتطلبان ساعة أو ساعة ونصف.

بينما تغادر مرايانا محلّ المكي، نصادف زبونا يلج المحلّ. نسأله: لماذا تعدّ المدفونة هنا وليس في مكان آخر؟ يجيب الزبون، واسمه سليمان، قائلاً: أعدّها عند المكي تبعا للنظافة. لا أستطيع أحيانا أن أتحمل رؤية بعض المشاهد عند الجزار وهو يعدّها. المكي يحرص على النظافة. تخصّص في تحضير المدفونة فقط. هذا سبب حاسمٌ طبعا، أما الدافع الأصلي فهو لذة المدفونة التي يصنعها المكي. الجميع هنا بالمدينة يشهد أنه تفوّق كثيراً في هذه “الصنعة”. ولست أداهنه لأنه لن يمنحني مدفونة يوما ما مجانا مثلاً. لكني لم أشعر يوما بالحرج أمام ضيوفي بفضل المكّي.

سليمان يستطردُ وهو يتحدّث بحماس: أنا أدلي بشهادة موضوعية يتقاسمها معي جل أبناء المدينة الذين يعرفون قيمة المدفونة التي يعدّها المكّي. كنت زبونا وفيا لجزار في السّوق المركزي، وكان أيضا يعد مدفونة لذيذة جدا. لكن، حين صار المكي قريبا جغرافيا، أعفاني من المسافة نحو السوق. جربته مرة، وأصبحت وفيا له. لو تذوّقت كل مدفونات الجزّارين، رغم براعتها ولذتها، ثم تتذوق مدفونة المكي، تجد أن ثمة تفردا ما، شيئا متوفرا عند المكي وحده، ربما قدرته على تطويع التوابل ليخلق نسقًا خاصًا به في صناعة المدفونة.

جذورُ وجبة

غادرنا محلّ المكي الكائن بالقرب من حيّ القدس، وتوجهنا إلى السوق المركزي لنلتقي عزيز اجهبلي، الإعلامي والباحث في التراث، بالقرب من النادي الأدبيّ وسط المدينة.

يتحدث اجهبلي عن أصل هذه الوجبة، قائلاً إن المدفونة “لم تكن في يوم من الأيّام أكلة شعبيّة، كما نرى الوضع اليوم، بل كانت مرتبطة بمناسبات خاصّة ومحددة: عيد الأضحى الذي يسمّيه المغاربة “العيد لكبير”… كما ارتبطت بالأعراس تحديداً، بحيث كانت المدفونة حاضرة ضمن المائدة الأولى التي يتناولها العريس والعروس في يومهما الأوّل، أو قل في الوجبة الأولى التي تجمعُها”.

لكنّ السّؤال الذي يطرحه اجهبلي في حديثه لمرايانا هو، لماذا ارتبطت هذه الأكلة بالمناسبات؟

لأنه، كما يعلم الجميع، فالمادّة الخام والأساسية للمدفونة هي اللحم الأحمر، وهي مادة لم تتوفر بكمية محترمة إلا في عيد الأضحى ومناسبات معيّنة، كالأعراس مثلاً، وفي حفلات العقيقة والضّيافات الفاخرة.

يعتبر اجهبلي أنّ هذه الأكلة، في الأصل، هي إبداع خالص لنساء المنطقة، قبل أن يتفوق الرجل حديثا في صناعتها. والرّاجح أنّ تافيلالت لم تعرف هذا الطّبق قبل خمسينيات القرن الماضي، وحتى لو كانت موجودة في حقبة من تاريخ هذا الفضاء السوسيوثقافي، فليست هناك لا كتابات ولا وثائق تؤكّد ذلك.

بالمقابل، هناك سرديات شفويّة شائعة، مفادها أنّ هذه الأكلة من بنات أفكار نساء الرّحل الأمازيغ، وذلك لأنّ الرّحل يتوفّرون على قطعان غنم وماعز، وهو ما خوّل لهم إضافة اللحم إلى الخبز، الذي يسمى في ثقافتهم “أغروم نوگنسو”. كان في بداياته يدفن تحت الجمر في التراب، ولهذا سُميت بـ”المدفونة”، وفق الرّوايات ذاتها.

يتماهى اجهبلي مع هذه الروايات، حيثُ يقول: “فعلاً، وعلى ما يلاحظ، فالمرأة بالمنطقة، حتى لا أقول المرأة الفيلالية حصراً، هي من طوّرت تجربة إعداد المدفونة واستلهمتها من نوع من الخبز الخاص بمناطق أسامر (الجنوب الشرقي)،  وهو “خبز الوسط” أو “خبز الدواز” أو “خبز البصل”. وهذا النوع من الخبز يُعدّ، أساسا، حسب ابن المنطقة، من البصل والتوابل، وفي بعض الأحيان، يضاف الجزر مدقوق (خيزو مطحون). كل هذه المواد، يتم لفّها بالعجين وكانت تُطهى بالأفران التّقليدية الطينيّة المعروفة، محليًّا، بـ”الكوشة”.

في الجزء الثاني من هذا الاستطلاع الذي تخصصه مرايانا، لوجبة المدفونة المشتهرة بمدينة الريصاني بالجنوب الشرقي، نتابع القيمة الغذائية لهذا الطبق، ونعاين أيضا الخصوصية السوسيوثقافية للمدفونة داخل النسق الفيلاليّ.

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *