فكرة “الشيطان” في اليهودية 2\4هكذا تطورت فكرة "الشيطان" لدى الإنسان وتطورت حضارة بعد حضارة ودينا بعد دين (الجزء الثاني)
لم يكن هناك وجود لفكرة “الشيطان” في البدء. هكذا عرفنا في الجزء الأول من هذا الملف، فالإنسان الأول لم يكن يميز بين الخير والشر، ثم خطوة بعد خطوة، من الهمجية …
لم يكن هناك وجود لفكرة “الشيطان” في البدء. هكذا عرفنا في الجزء الأول من هذا الملف، فالإنسان الأول لم يكن يميز بين الخير والشر، ثم خطوة بعد خطوة، من الهمجية الأولى إلى بروز الحضارات الأولى، أخذ يفسر ويفهم ما يحيط به، حتى توصل إلى نوع من الفارق بينهما.
لكن، مع ظهور الديانات الكتابية، سيحدث فارق أكبر، وهو من حيث تقديم أو تأخير صفتين إلهيتين، صفة الخلق والتكوين وصفة السيادة والسلطان. الحضارات الأولى آمنت بخلق إله للأكوان، لكنها قدمت الصفة الثانية على الأولى؛ بينما سيقدم ظهور الديانات الكتابية الصفة الأولى، وسيجعلها شاملة لكل ما عداها من الصفات الإلهية.
يقول عباس محمود العقاد في كتابه “إبليس.. بحث في تاريخ الخير والشر وتمييز الإنسان بينهما من مطلع التاريخ إلى اليوم” الذي سبقت الإشارة إليه في الجزء الأول، إن هذا الفارق يتأتى منه شيء كثير، فالشر في الحالة الأولى يحسب من قبيل الحماقة والفساد، بينما في الحالة الثانية يعد كفرا[1].
في هذا الجزء، الثاني، سنخطو خطوة أخرى على طريق معرفة تبلور مفهوم “الشيطان” في التاريخ الإنساني، وهذه المرة مع الديانة الكتابية الأولى؛ أي اليهودية، أو كما يسميها العقاد، العبرية.
اقرأ أيضا: “الإسرائيليات في الثقافة الإسلامية: أصل الحكاية 3/2”
- قبل ذلك، لماذا يطلق عليها العقاد العبرية؟
يقول العقاد إن اسم “يهودية” لا يصدق عليها لأن النسبة إلى يهوذا حدثت بعد موسى، ولا يصدق عليها اسم “موسوية” أيضا لأن موسى قام بالدعوة بعد يعقوب وإسحاق وابراهيم، كما لا يصدق عليها اسم “إسرائيلية” لأنها تنسب إلى إسرائيل، وهو يعقوب بن إسحاق، وكان جد هؤلاء جميعا ابراهيم، الذي يلقب في بعض كتب العهد القديم بـ”العبري”.
عبء التوسع في الوثنيات
العبرية في نشأتها الأولى، غير ديانة التوراة كما تلقاها المسيحيون الأوائل، وكما انتهت إلى ما وردت عليه في القرآن. هذه الديانة حملت عبء التوسع في الوثنيات الأولى وعقائد التوحيد لوقت طويل، ولم تستقم على عقيدة الإله الواحد المنزه من الوثنية، إلا حوالي القرن الثاني قبل الميلاد.
لم يكن الشيطان هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة، إنما كانت الحية هي صاحبة الغواية -كما كان الأقدمون يصورون الشر-، وقد احتاج الأمر إلى وقت لتصبح الحية مجرد رمز للشيطان، وذلك على سبيل المجاز.
كان العبريون الأوائل يعودون كل مرة إلى الأوثان والأصنام وعبادة تموز وعشتروت، كما يعرضون عن أنبيائهم الذين كانوا يغارون من منافسة هذه الآلهة لإله ابراهيم، ثم لا يلبثوا أن يعودوا إلى الوحدانية أو ما يشبهها بعد تقرير الدعوة من جديد.
العبرية في هذه المرحلة، تأثرت بالحضارات الأولى، فغلبت هذه عليها، إذ استمرت فكرة السيادة في عبادة الإله على فكرة الخلق، فلم ينكر العبريون وجود الآلهة التي تدين بها العشائر الأخرى، إنما أنكروا فقط سيادتها ودانوا بالولاء للإله “يهوا”[2].
اقرأ أيضا: “كيف بدأ عرب الجزيرة يعبدون الأصنام قبل ظهور الإسلام؟ ولادة هبل 1\3”
لأول مرة… “الشيطان” بالاسم لا بالوصف!
العبريون الأوائل لم يشعروا بما يدعوهم إلى إسناد الشرور إلى شخصية شيطانية؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن تصدر من الإله أعمال كأعمال الشيطان، بل وكانت الأعمال عندهم مرة تنسب إلى الإله، ومرة إلى الشيطان.
مع ذلك، لم يرد ذكر للشيطان قط في كتاب من كتب ما قبل عصر المنفى إلى أرض بابل سنة 586 ق.م. كانت فكرة “الشيطان” تذكر بالوصف لا بالتسمية، فمرة تجيء بمعنى خصم في قضية، ومرة بمعنى مقاوم في الحرب، وهكذا…
تأخر المصادر التي فصلت الحديث عن الشيطان يدل على تأخر العبريين في بلورة هذه الفكرة. ففي الروايات التلمودية المتأخرة، فقط، سيبدأ التفصيل في العداوة الشيطانية للإنسان وأثر هذه العداوة في خروج آدم من النعيم.
حتى إن الشيطان لم يكن هو الذي أغوى حواء بالأكل من الشجرة المحرمة، إنما كانت الحية هي صاحبة الغواية -كما كان الأقدمون يصورون الشر-، وقد احتاج الأمر إلى وقت لتصبح الحية مجرد رمز للشيطان، وذلك على سبيل المجاز.
أما المرة الأولى التي ورد فيها اسم الشيطان بصيغة العلم، فكانت في الإصحاح 21 من سفر الأيام الأول، حيث إن “الشيطان” هو الذي أغرى داوود بإحصاء الشعب.
وإذا قلنا إن ذات الأعمال قد تنسب إلى الإله، فإننا نجد، مثلا، أن ذات القصة وردت في سفر صمويل الثاني، لكنها منسوبة للإله: “حمى غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلا امض واحص إسرائيل ويهوذا…”.
اقرأ أيضا: “الإسرائيليات… إسلام بنكهة أهل الكتاب. آدم وحواء وجنة الخلد 1\3”
تأخر تفصيل الحديث في “الشيطان”
تأخر المصادر التي فصلت الحديث عن الشيطان يدل على تأخر العبريين في بلورة هذه الفكرة. ففي الروايات التلمودية المتأخرة، فقط، سيبدأ التفصيل في العداوة الشيطانية للإنسان وأثر هذه العداوة في خروج آدم من النعيم.
هكذا، لم تعد الحية هي التي وسوست لآدم، إنما “مشطيم”، اسم الفاعل من “شط” في اللغة العبرية الذي يقابل فعل “شيطن” في اللغة العربية.
التلموديات، في العصور المتأخرة، تحتوي على كلمات تدل على الشيطان مثل “بليعال” روح الكذب والخداع، الذي يقابله في اللغة العربية “بلاعول”؛ أي لا يعول عليه ولا أخلاق له ولا خير فيه.
لم يكن تمييز الشيطان، بخلائقه المنافرة للخير، “عقيدة رسمية” يقرها الأنبياء، وفق العقاد، لكنه كان من قبيل التراث المحفوظ الذي قد تعرف مصادره حينا، أو الذي نقل من مصادر غير معلومة أحيانا أخرى.
يشير العقاد الذي أخذ في هذا الصدد عن كتاب “الشيطان: بورتريه” لمؤلفه إدوارد لانغتون، إلى أن كتاب أخنوخ[3]، يحتوي في هذا العصر على حديث عن الملائكة الهابطين بقيادة كبيرهم المطرود من رحمة الإله؛ ويقول أيضا إن الموت نزل على الدنيا من جراء حسد الشيطان.
ومع ذلك، فإن الشيطان بخلائقه التي تنافر الأخلاق العليا، إنما كانت تزداد فكرته وتتمكن، كلما استعار العبريون شعائرهم ومأثوراتهم من أبناء الحضارات الكبرى، فأنبياؤهم الذين أكدوا لهم عقيدة التوحيد والتنزيه، لم يجدوا لهم سميعا قبل القرون الثلاثة الأخيرة التي سبقت المسيحية.
هكذا، لم يكن تمييز الشيطان، بخلائقه المنافرة للخير، “عقيدة رسمية” يقرها الرؤساء المسؤولون، وفق العقاد، لكنه كان من قبيل التراث المحفوظ الذي قد تعرف مصادره حينا، أو الذي نقل من مصادر غير معلومة أحيانا أخرى.
ثم، حين ظهرت المسيحية، كان مفهوم الشيطان وقتئذ ميراثا مشاعا لا يستند فيه اليهود إلى نسختهم من التوراة ولا أسانيدهم “الرسمية”، إنما كان مفهوما لا يختصون به لوحدهم، بل نقلوه إما من مصادر معلومة أو مجهولة، كما لا يُرجع في كتب التلمود والمشنا[4] إلى أي نبي من أنبيائهم.
في الجزء الثالث من هذا الملف، نخطو خطوة أخرى أكثر تقدما في طريق معرفة تبلور مفهوم “الشيطان” في التاريخ الإنساني، وهذه المرة مع الجديد الذي أضفاه عليه ظهور الديانة المسيحية.
لقراءة الجزء الأول: “هكذا نشأت فكرة “الشيطان” لدى الإنسان الأول وتطورت حضارة بعد حضارة ودينا بعد دين 1\4″
لقراءة الجزء الثالث: “فكرة “الشيطان” في المسيحية 3\4″
لقراءة الجزء الرابع: “فكرة “الشيطان” في الإسلام 4\4″