أطفالٌ ضحايا العنف المنزلي: ومن “التربية” ما.. يُدمّر!
يقولون دائما إن الأسرة هي خليّة المجتمع الأولى، وهي الفضاء الأول الذي يصطدم به الأطفال بعد مجيئهم إلى العالم. في ذات الفضاء، ينمو الطفل وتتكوّن عواطفه التي تتيح له، فيما بعد، خوض غمار حياة اجتماعية بكلّ تفاعلاتها الممكنة.
وبما أنّ الطفولة يُنظرُ إليها كمرحلة مفصليّة في عمليّة النمو النفسي بالنسبة للطفل، فالأسئلة يمكن أن تتناسل حول كيف يتأثّر هذا النموّ إذا كان الوسط مليئاً بالعنف؟ وكيف يساهم العنف الأسريّ ضدّ الأطفال في عرقلة اندماج الطّفل داخل المدرسة والمجتمع المغربي؟
نحاول، هنا في مرايانا، أن نسائل تصوراً لازال ساريّا داخل أعماق المجتمع، يعتبر العنف عنصراً ضروريًّا في عملية “التربية”. سيكون مفيداً أن نقف على كيف يساهم بقاء هذه التصورات “حيّة” في تقويض الجهود التي تبذلها الدولة والمجتمع المدني لتحقيق تنمية مُجتمعية شاملة.
العنف وسؤال التّربية
يتحدث إلينا بعض الآباء، الذين يعتبرون “العنف مسألة حاسمة في التربية”. تصور لازال حاضراً عند العديد من المغاربة، لا يعني وجوده صحّتَه، بقدر ما يبين إصراراً على إبقاء شكل التّربية داخل زمن ما قد ولّى وانقضى.
عبد الرحمن (51 سنة)، مثلاً، يقول إنّه حين كان يبرح أطفاله ضربا، فذلك “كان تصرفا عمليًّا لدفعهم إلى تجنب اقتراف الخطايا، التي سبق وأقدموا عليها، مرّة أخرى. الخطيئة، بالنسبة له، “لا يجبُ أن تغفر دائما، لأنّه إذا ازداد الأمر عن حدّه، يصعب التّعامل معه. الضّرب يعلّم الأطفال أن بعض الأشياء لا تستقيم، وعليهم تجنبها بصفة نهائية”.
بالنسبة للرّجل، فإنه “ليس هناك من لا يضرب أبناءه رغم كل الشعارات. حين كنت أقول لأبنائي: “لا تقوموا بهذا الأمر”، لا ينصتون في الغالب. لكن، بالمقابل، عندما أتحدّث إليهم عبر الضّرب، ينتَهون فعلاً. العنف شيء أساسيّ في التّربية، ونحن كبرنا بالعنف، لكن هذا الجيل يريد أن يتدلّل”.
لا يبدو غريبًا جدا أن يتقاطع أحمد (39 سنة) مع عبد الرّحمن، في اعتبار العنف تكتيكًا هامًّا داخل سيرورة تربية الأطفال. لكن، “ليس دائما. في نفس الوقت، لا يجب أن نتماشى مع الأفكار التي تقول إنه لا يجب ضرب الطفل نهائيا. نحن نضرب أطفالنا، إنما باعتدال، أي أننا لا نترك عليهم آثارا أو جروحا كما يفعل بعض الآباء. أنا ووالدتهم نصفعهم بقوة حين يقومون بشيء ما غير مقبول”.
يعتبر هذا الأب أنه “لا يمكن أن يحتجز أطفاله ويعذبهم. ورغم كل ذلك، يعتبر العنف أمرا هاما في تعليم الأطفال بعض السلوكات الجيدة، التي ستنفعهم في حياتهم”.
بدورها، تسير زهور (59 سنة) في ذات الطرح “الشعبي” و”التقليدي”، الذي ينتصر للعنف ضمن رهان “التربية”. تقول زهور في حديثها إلى مرايانا: “أبنائي الخمسة قضوا طفولتهم وهم يتعرضون للضرب والعنف، وكانوا في نفس الوقت متفوقين دراسيًّا، ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي”.
تقول هذه الوالدة: أبنائي ليست لديهم الآن أية عقد نفسية. بالعكس، هم يشكروننا على التربية الحسنة التي خصصناها لهم أنا ووالدهم. هم فلذة كبدي، وكنت أعرف أن ذلك الضرب في صالحهم، وسينفعهم في المضي قدما في الحياة. النتيجة مُرضية. كبروا وأصبحوا رجالا ونساء ومنهم من تزوج. بالمقابل، لا أستطيع تعنيف أحفادي، لا أعرف لماذا. غريب هذا الشعور، يعني أنني أعتبر الأمر عاديا أن أنهال على أبنائي بالضّرب، لكن ذلك مستحيل مع أحفادي”.
أفرادٌ بنفسانية مشروخة
تعتقدُ الباحثة في علم النفس، هدى الداودي، أنّ الأمر مجرد صور نمطية غير صحيحة بالنظر إلى البعد المعرفي والأكاديمي ومن وجهة نظر علم النفس عموما.
ذلك أنّ التربية ليست لصيقة بالعنف، والطفل في وسطه الأسري يكون في حاجة ماسة إلى الشعور بالدفء والرعاية والأمان والتمتع بعلاقة صحية ومستقرة مع المحيطين به داخل الأسرة: آباء وإخوانا وأخوات وخالات وعمات وأخوال وأعمام، إلخ. هذا يساعد في تكوين تشابك وتعلق سليم ومثمر يشجع النمو الطبيعيّ للطفل دون مؤثرات أخرى سلبية.
الداودي تضيف في تصريحها لمرايانا أنّ التصورات القديمة، التي تعتبر العنف جزءا من التربية، تعود إلى التكوين النفسي والذهني القديم، حين لم تكن الدراسات موجودة.
لذلك، نعاين أنّ “العنف موجود ومتفشي في مجتمعات العالم الثالث، ومنها المغرب، سواء كان ذلك العنف لفظيا أو جسديا أو عاطفيا، أو يتم عن طريق الإهانة وسوء المعاملة والتنمر والسخرية من الطفل. كل هذه الأشكال يصادفها عدد من الأطفال داخل أسرهم المغربية”، تقول الداودي.
العنف حين يبلغ درجة معينة، يربك الجهاز العصبيّ للطّفل. لذلك، ترى المتحدثة أنّ للأمر آثارا مباشرة تؤثر على البنية السلوكية والعاطفية للطفل الذي تعرّض للعنف. هذه الآثار، أحيانا تكون طويلة الأمد، وأحيانا متوسطة الأمد، حسب المناعة النفسية للطفل. لكنها مع ذلك تؤثر على الفرد كما على المجتمع وعملية اندماج الكلّ في الجزء أو الجزء في الكلّ.
من ناحية أخرى، يرى الأخصائي النفسي محمد كحلاوي أنّ العنف ليس شيئًا عاديًّا كما تتصوره بعض الأسر المغربية، فعمليات التعنيف التي يتعرض لها الطفل قد تكون سببا مباشراً يعيق نموّه، جسديا وذهنيا ودماغيا.
لهذا، فإن الأبحاث تعتبر الطّفل المعرَّض للعنف بمثابة فرد أقلّ حظًّا في تمتعه بالنّمو الطّبيعي، بالمقارنة مع طفل في سنّه لا يتعرض للعنف بأي شكل كان. لهذا، يُلاحظ أنّ الأطفال المعرضين للعنف ثقتهم في النفس مهزوزة وشخصياتهم تضعف، ما يساهم في إضعاف تقديرهم لأنفسهم.
كحلاوي يضيف في تواصله مع مرايانا أنّ الأطفال يشعرون بشكل خاص من التّهميش، ويكون الخوف مرتفعا في دواخلهم، ما يسبب لهم اضطرابات القلق والتوتر. يمكن أن يكون العنف الأسريّ أيضًا سببا مباشرا لتعرض الطفل في مرحلة ما للاكتئاب الحاد.
وبالتّالي، إذا بلغ الأمر حدًّا متطرّفا، قد تولد لدى الأطفال سلوكات انتحاريّة، ولا تبقى عندهم رغبة في الحياة أو البقاء مع المحيط الأسري حيث يكثر العنف، سواء كان لفظيّا أو جسديا أو جنسيا أو عاطفيا. كلّ هذا يفتح احتمالات لجوء الأطفال في وقت مبكّر إلى التّعاطي للمخدّرات، الخمور، “المعجون”، “الحشيش”،”السلسيون” و”الكوكايين”، وذلك بغية نسيان الصدمات العنيفة التي تعرضوا لها داخل أسرهم.
أمّا الآثار الاجتماعيّة، مثلاً، فيجملها كحلاوي في انعدام الشعور بالأمان عند الأطفال، لأن الأسرة التي كانت فضاء لتصريف الأمان للمجتمع، أصبح العنفُ فيها موجودا، وبالتّالي يحدثُ تداخل كبير، حيث يتأثر الطفل بذلك.
الحب والحنان المفروض أن يكون في الأسرة تعوض بالعنف، بالتالي الأسرة تصبح فضاء غير آمن لصحة الطفل، ومن ثمة يفقد الثقة بالآخرين داخل المجتمع. هؤلاء الأطفال يصبح عندهم فقرٌ في المهارات لكي يحلوا مشاكلهم بشكل ذاتي وباجتهادهم الشخصيّ، أو يسيطروا على غضبهم، ويصبح سلوكهم في النهاية عدوانيا.
الانعزال والفشل الدراسي
هشام الدمناتي، أستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي بجامعة القاضي عياض مراكش، يؤكد أنّ العنف ضد الأطفال داخل النطاق الأسري يخلف نتائجا سلبية تؤدي إلى تعثر اندماجهم المدرسي والاجتماعي. لكن كيف؟
يجيب الدمناتي معتبرا أنّ العنف يربّي لدى الطفل شعورا بالرغبة في الانعزال عن الجميع، وذلك من خلال الخوف وانعدام القدرة على المواجهة، وضعف الثقة في النفس؛ بالإضافة إلى تقدير الذات الذي يكون منخفضا لديه، وكذلك يكون عرضة لتشكل مشاعر الضغينة والحقد والرهبة من العالم الخارجي نتيجة غياب الأمان في السياق الأسري، وهو ما يؤدي به في الغالب إلى العناد والتحدي السلبي للمحيط الذي ينتمي اليه.
الخطير، وفق ما يبينه الدمناتي لمرايانا، أنّ الآثار الوخيمة للعنف، غالبا ما تؤدي إلى فشل على المستوى الدراسي؛ بحيث في غياب الأسرة التي توفر جوا نفسيا سليما ودعما عاطفيا للمتمدرس، فإن المعرضين للعنف أسريا هم أكثر قابلية لمغادرة المدرسة في سنّ مبكرة، وانعدام الرغبة في التمدرس يكون لديهم قويا، ويفشلون في الاندماج والتكيّف داخل المدرسة وفرض الذات وأخد المبادرة والنجاح في الفصول الدراسية.
لكن، رغم كلّ ما فصله الدمناتي من مخاطر، فإن الأخصائي النفسي محمد كحلاوي، يجد أنّ الخطورة تصبح أشدّ حين تصير لهؤلاء الأطفال صعوبات تعليميّة كثيرة. فبفعل العنف الذي يتعرضون له، يصبح مستوى ذكائهم أقلّ، مقارنة مع زملائهم في المدرسة، ويصبح تركيزهم مشتّتا نتيجةً للقلق والخوف، وتكون عندهم مشكلة في تكوين علاقات اجتماعية سليمة، والحفاظ عليها. حتى اختيار علاقاتهم لا يخضع لمعايير صحية، لذلك يصاحبون أشخاصا يميلون إلى الأشياء التي يودون الهروب إليها، كالمخدرات أحيانا على سبيل المثال.
كحلاوي يعتبر أيضا أن الأطفال المعنَّفين يصبح لديهم كذلك ضعف في المهارات الإدراكية وفي الوظائف التنفيذية، بمعنى أنه يكون لهم مشكل في الانتباه إلى ما يقوله الآخر، خصوصا داخل الفصل الدراسي؛ وأيضا تصبح لديهم مشاكل على مستوى الذاكرة، ولا يستطيعون تذكّر الأشياء المهمة من الدروس، لهذا فعدد مُهم منهم يغادر المدرسة.
في النهاية، يقول كحلاوي إنّ بعض الأطفال مثلا، يكون لديهم ما يسمى “اضطراب ما بعد الصدمة”، وهذا يعني أنّ الأطفال الذين يتعرضون للعنف بطريقة منتظمة، يحدث أن يعانوا باستمرار من الأحداث الصادمة التي لديها علاقة بالعنف.
من ثمة يتجنبون الأشخاص أو الأماكن أو الأحداث التي تعرضوا فيها للعنف؛ ويصبح لهم مجموعة من المشاعر السلبية من قبيل الخوف والغضب والخجل، أو تتحول مزاجيتهم وعصبيتهم إلى نحو سلبي، حيث تغدو زائلة.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- العنف المنزلي في القرون الوسطى: كيف منحت الأعراف “الأوروبية” للزوج الحقّ في تعنيف شريكته؟ 1\2
- تاريخ العنف المنزلي: هكذا كسبت النسوية أشرس المعارك الفكرية في تاريخها 2\2
- العنف المدرسي بالمغرب: واقع اجتماعي”صعب” وغياب حلول “ناجعة”…
- عن العنف والتحرش الجنسي في المدرسة وضعف الكفايات… مجلس عزيمان يدقّ ناقوس الخطر!
- التعليم… إصلاح الفشل وفشل الإصلاح 1\2