رضوى عاشور… الزواج بالبرغوثي والانشداد للقضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق الإنسان 2/2
في روايتها “فرج”، تستحضرُ التاريخ الأسود للاعتقال السياسي بالوطن العربي، والتعذيب بالسجون الذي يحطّ من كَرامة الإنسان، حتّى أنها تقدمُ مثالاً لسيّدة معتقلة في إسبانيا في عهد فرَانكو، وتحكي في زنزانتها الافتراضية مأساتها لذبابة”…
‘لا أدرى لماذا، وكأن الروايات كالعفاريت، أو أنها لا تستجيب لمجرد الرغبة أو القرار”… هذا ما فسّرت به رضوى عاشور، تأخر عملٍ روائي بخصوص القضية الفلسطينية، رغم انشغالها بها منذ أن كانت طرية العود…
بعد أن تابعنا في الجزء الأول علاقة رضوى والكتابة والنضال. في هذا الجزء نقدم لقراء “مرايانا” كيف أثر زواجها على اهتمامها أكثر بالقضية الفلسطينية.
رضوى عاشور كتبت في التاريخ، فأنتجت ما وصفهُ بعض النقاد بـ”رواية القرن”، أي “ثلاثية غرناطة”، وهي ثلاثية روائية تتكون من روايات: غرناطة” 1994 و”مريم والرحيل” 1995، و”أطياف” 1999.
“فلسطين قضيتي بقدر ما هي قضية العديد من المثقفين المصريين. زواجي من فلسطيني جعل فلسطين أكثر حضورا على مستوى التفاصيل اليومية لحياة الناس، لم تعد مجرد موقف من قضية أثق في عدالتها وأنحاز لها بل تجربة معيشة”.
أحداثها تدورُ في مملكة غرناطة بعد سقوط جميع الممالك الإسلامية في الأندلس، وتبدأ في العام الذي سقطت فيه غرناطة بإعلان المعاهدة التي تنازل بمقتضاها أبو عبد الله محمد الصغير، آخر ملوك غرناطة، عن ملكه لملكي “قشتالة” و”أراغون”، وتنتهي بمخالفة آخر أبطالها الأحياء لقرار ترحيل المسلمين، حينما يكتشف أن الموت في الرحيل عن الأندلس وليس في البقاء.
ختمتْ عاشور مسيرتها الروائية، أو ختمها المرض العضال الذي كانت تعاني منه، برواية “الطنطورية” التي تتناول فيها القضية الفلسطينية لأول مرة في مسارها. وأصدرت بعدها سيرة ذاتية: “أثقل من رضوى” وكذلك الصّرخة التي وقّعها زوجها مريد ونجلهما تميم.
فلسطين… تلك القضيّة العادلة!
لم تنكر رضوى عاشور يوماً أنّ زواجها من الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، دفعها للإمساكِ أكثر بأحد القضايا العالقة بالبلاد العربية، باعتبارها قضية إنسانية تتعلّق بالتحرر الوطني من وطأة الاستعمار والامبريالية.
أنجبت منهُ الشاعر تميم البرغوثي سنة 1977، وهو العام الذي تم فيه ترحيل البرغوثي، مع العديد من الفلسطينيين الآخرين، من مصر في الفترة التي سبقت زيارة السادات إلى القدس.
الأقدار حالت أيضاً دون أن تجتمع العائلة في هناء، حيثُ تمّ تكليف مريد بالإدارة الإعلامية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بودابست عاصمة المجر، بهنغاريا. وظلّ يزُور زوجته وابنه تميم كل عُطلة صيفية.
حين حدَث وتكلّمت عن مريد البرغوثي، قالت في مذكّراتها: “غريب أن أبقى محتفظة بنفس النظرة إلى شخص ما طوال ثلاثين عاما، أن يمضي الزّمن وتمر السنوات وتتبدل المشاهد وتبقى صورته كما قرت في نفسي في لقاءاتنا الأولى”.
“أكره العدمية، وأكره تيئيس الناس عندما يسقط الإنسان هو شخصيًا في اليأس، فيعلن هكذا بخفة وبساطة أن كل مسعى يلجأ إليه الناس لخلق معنى لحياتهم، ليس سوى أوراق توت!”
ولأنها تُشاطره الأحلام والرّؤى والهموم، فقد أصدرت عام 2008، ترجمة إلى الإنجليزية لمختارات شعرية لمريد البرغوثي بعنوان “منتصف الليل وقصائد أخرى”.
“فلسطين قضيتي بقدر ما هي قضية العديد من المثقفين المصريين. زواجي من فلسطيني جعل فلسطين أكثر حضورا على مستوى التفاصيل اليومية لحياة الناس، لم تعد مجرد موقف من قضية أثق في عدالتها وأنحاز لها بل تجربة معيشة.”
بهذه الجملة السلسة ردت رضوى عاشور، في إحدى حواراتها بشأن القضية الفلسطينية.
أكثر من ذلك، توضح بخصوص روايتها “الطّنطورية”: “كانت الطنطورة قرية وادعة ولم يخطر في بال سكانها أن شراً مستطيراً سوف يصيبهم. كانوا موقنين بأن النصر للعرب. ولمّا وصل إلى الطنطورة بعض أهالي قيسارية بعد سقوطها، لم يعاملوهم كلاجئين، بل كضيوف، وكان نصيب عائلة رقية أمّاً وولديها”.
الحكاية التي أرادت رضوى عاشور أن تنقلها للقراء ليست حكاية هذه المرأة دون غيرها من نساء فلسطين، بل هي تصوير روائي لمأساة شعب من خلال حياة رُقيّة الشخصية.
عندما سعى الرئيس أنور السادات للتطبيع مع إسرائيل، ساهمت عاشور في إنشَاء اللّجنة الوطَنية لمُكافحة الصهيونية في الجامعات المصرية… وحين تدخلت حكومة حسني مبارك في الحياة الأكاديمية، ساعدت في إيجاد مجموعة 9 مارس المطالبة باستقلال الجامعات.
عاشُور المُناهِضة للتّعذِيب…
في روايتها “فرج”، تستحضرُ التاريخ الأسود للاعتقال السياسي بالوطن العربي، والتعذيب بالسجون الذي يحطّ من كَرامة الإنسان، حتّى أنها تقدمُ مثالاً لسيّدة معتقلة في إسبانيا في عهد فرَانكو، وتحكي في زنزانتها الافتراضية مأساتها لذبابة”.
حازت رضوى عديد الجوائز قيد حياتها، لكنّ الجائزة الأسمى هي حبّ الجمهور والإيمان بقضايا عاشور العادلة.
تروي ندى، الشخصية المِحورية فِي الرواية، بعض الأحداث في معتقل الخيام في جنوب لبنان وفي سجون إسرائيلية. ذكرت، دون أن تتعمقّ، معتقل تازمامارت في المغرب… وكل هذه المعتقلات تلتقي في نقطة الحطّ من الكَرامة الإنسانية للمعتقلين السياسيين والمعارضين للأنظمة المتعسّفة والديكتاتورية.
أقحمَ النقادُ رواية “فرج”، ضمن أدب السجون، فهي تنقل تجربة أجيال متتالية مع السجن، بدءًا من تجربة والد ندى عبد القادر، ثم تجربتها هي، وأخيرًا تجربة شقيقها الصغير… عبر هذه الأجزاء الثلاثة، تعرضُ تفاصيل الملاحقة والقمع السياسي في فترات مختلفة، وكأنها أرادت أن تقول إن التجربة واحدة ومشتركة…
أمامَ كُل الأوضاع المزرية التي عايشتها ندى، سعت من خلال بوحها التصويري، أن تقدّم شهادة شخصية عن الحركات الطلابية في مصر في الستينات والسبعينات وحتى التسعينات، وتقاوم الغرق في أفكارها الشخصية، وتناضل ضد الوحدة والاكتئاب.
لذلك تقولُ ندى عبد القادر: “ولكنني أكره العدمية، وأكره تيئيس الناس عندما يسقط الإنسان هو شخصيًا في اليأس، فيعلن هكذا بخفة وبساطة أن كل مسعى يلجأ إليه الناس لخلق معنى لحياتهم، ليس سوى أوراق توت!”
في سنة 2019، بمناسبة ذكراها السّنوية، زفّ مريد البرغوثي بتعاون مع نجله تميم البرغوثي، للقرّاء كتابا يحمل عنوان “لكل المقهورين أجنحة. الأستاذة تتكلم”. هذا الكتاب يتضمّن شتّى مقالات الراحلة رضوى عاشور في الأدب والنقد والسياسة والتعليم؛ ومنها ما ينشرُ لأوّل مرّة.
حازت رضوى عديد الجوائز قيد حياتها، لكنّ الجائزة الأسمى هي حبّ الجمهور والإيمان بقضايا عاشور العادلة.
التحق مريد البرغوثي برضواهُ يوم 14 فبراير 2021، متأثّراً بورم خبيث في الرئة. إذ أخبره الأطباء بذلك في نونبر 2020، فخط بيده عبارة “سنصعد هذا الجبل” على ورقة وعلقها على المرآة، وهي مطلع قصيدة له من ديوان زهر الرمان المنشور سنة 2002، كما ينقل ابنه تميم.
لكنّ الجبل الذي صعده مريد البرغوثي حقيقةً، لم يكن سوى جبل الحبّ حين صعد إلى جوار رضوى. ذاك الحبّ الصّلبُ الذي بدأ في الملموس وامتدّ في اللامرئي والمطلق.
لقد راحتْ رضوى عاشور قبله، مخلفةً لنا وصية تصلحُ أن ندرجها في المناهج التربوية لهذا الجيل، فهي تقول: “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”…
وداعاً رضوى… وداعا!
- الجزء الأول: رضوى عاشُور… قبلةٌ على جبين الأدب العربيّ 1/2