أنستغرام: حين يصير استعراض الجسد وسيلة لولوج عالم “التأثير” 1\2
بما أننا نعيش في زمن عنوانه وسائط التواصل الاجتماعي، فإننا حتما أمام عصر مُرقمن بامتياز. عصرٌ حول جزءا من واقعنا الموضوعي إلى فضاء عمومي افتراضي جديد. لهذا، صرنا نعاين مغربيات، ومغاربة، يشاركن ويشاركون صوراً لأجسادهن\هم تبرز ما يسميه البعض بـ”المفاتن”، بشكل يستدعي الكثير من التأمل، لفهم هذه الموجة “الجديدة”.
لا تطرح صور الجسد مشكلاً في حدّ ذاتها، بقدر ما أن حيثياتها تتطلّب فهما متأنيا، بما أن مواقع التواصل الاجتماعي عموما تضمر أكثر مما تعلن. فهل يمكننا أن نقرأ صور الجسد الأنثوي، لمغربيات على أنستغرام، بصيغة موضوعية أم أن هذه العملية ستكون تصرّفا “فقهيا” و”أخلاقيا” بامتياز؟ هل نصدّق الأطروحة القائلة بأنّ صور الجسد صارت تعادل ارتفاعا في أعداد المتابعين؟
الزاهي: استعراض للأنوثة رقميّا
فريد الزاهي، جامعي باحث في الصورة، يفسّر لنا كيف أنّ الأنستغرام ظاهرة جديدة أتت منذ بضع سنوات لكي تتميز بخصوصيات كانت ملامحها تمتزج بوسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، كفايسبوك وتويتر، لكن من غير أن يأخذ طابع التواصل الجنسي أو الزواج أو ما شابهها.
بالنسة للزّاهي، فإنّه “بشكل ما، من النّاحية الثّقافية، موقع “لايت” انتبه له في البداية المراهقون والشّباب وخاصة النّساء، لأنهم وجدوا فيه فسحة من حرية التّظاهر لا تبيحها مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى إلا بشكل محدود، وأحيانا بشكل مستتر”.
غير أنّه تحول إلى تطبيق وازن، بحيث إن أغلب من يملكون صفحة في الفايس أو تويتر يملكون صفحة موازية في إنستغرام. بل إن العديد من الشباب الذين يبتغون التأثير أو يرغبون في التجارة الإلكترونية المجانية، اتجهوا إليه وجعلوه موطن عملياتهم الموازية أو الأساسية…
يقول المتحدّث إنه في السنوات الأخيرة، تحول الأنستغرام إلى مجال لاستعراض الأنوثة والأرداف والأعضاء المثيرة بشكل قد يبدو للبعض تجارة إلكترونية للجسد الأنثوي، أو موقعا لامتهان الجنس… لكن هذا الأمر يستدعي أن نوضح أن هذه المحتويات كانت ولا زالت موجودة في كافة المواقع، بل بشكل فاضح وواضح في المواقع الأخرى المتخصصة.
يبدو للزاهي أيضا أن استعراض الجسد كان موجودا منذ بدايات الأنستغرام، غير أننا لم ننتبه له بما يكفي؛ كما أن وجود العري، الذي هو غير البورنوغرافي طبعا، لأن ثمة قوانين تحرّمه، يوجد في هذا الموقع كما في كافة المواقع الواقعيّة للرقص والشّرب ولقاء الشّباب في جميع المدن، وقد يكون ثمة علائق بين المجالين يخلقها بعض الأفراد.
استعراض الجسد لا يلزم فهمه دوما كامتهان للجنس، لأن ذلك سيكون موقفا أخلاقيا أو فقهيا، فهو أولا وقبل كل شيء غواية بصرية، بعيدا عن متناول المتلقي، وأحيانا محميا باسم مستعار، وهو ثانيا بحث عن الاعتراف بالذات في الصورة كما في أعين الذي يشاهدها…
هذا يقودنا، وفق الزاهي، إلى التّحولات التي جاءت بها الصورة الرقمية ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي أحدثت طفرة في علاقة الشباب المغربي بجسدهم، إناثا ورجالا. فالأمر كما يبدو لي، يقول الزاهي، يتعلق بالجسد قبل أن يتعلق بالصورة…
كخلاصة، يجد الجامعي المتخصص في الصورة أنّ “امتلاك هاتف ذكي ذي آلة تصوير مدمجة، والقدرة على التقاط الصور وإضافة الرتوش واللمسات عليها، بل تجميلها وتحسينها، وهو ممارسة ظلت سائدة في الفوتوغرافيا منذ بداياتها، جعل الصورة أقرب إلى الذات، وحوّل الشباب إلى صانع متحكم في صورته الذاتية والاجتماعية.
ثم إن فورة التصوير هذه لا يلزم النظر إليها باعتبارها ضياعا، وإنما باعتبارها مصدرا لأسلوب جديد في الحياة يغدو الشباب فيه الفاعلين الاجتماعيين الرئيسيين”.
كرام: إغراء افتراضي
تسير زهور كرام، المتخصصة في تحليل الخطاب الرقمي، في نفس الخطّ التحليليّ للزاهي، معتبرة أنّ الجسد في مواقع التّواصل الاجتماعي، خاصة أنستغرام، صار من بين المفاهيم التي تأخذ دلالات جديدة في تجليها الاجتماعي والثقافي، وتبتعد بشكل سريع عن قيمتها الدلالية السابقة.
الحديث هنا عن الدلالات ذات العلاقة بقيمة تقدير الجسد، وامتلاك خصوصيته الإنسانية، والدفاع عن وحدته أمام الإيديولوجيات التي تعمل على تبخيسه بتحويله إلى مجرد أجزاء خارج وحدته، مما يُؤدي إلى فقدان الجسد للمعنى في ذاته.
التكنولوجيا، وفق كرام، سمحت بخدماتها المرنة والسريعة وشبه المجانية، بالانخراط في هذا المفهوم الجديد للجسد، والخضوع لسلطة التّصور الذي يتمّ تمريره، بمساعدة الخدمات التكنولوجية، مع تراجع مجموعة من القيم الإنسانية، وشبه غياب ثقافة التنوير التكنولوجي، وبالتالي، أصبحنا نعيش نظاما جديدا في علاقة الإنسان بجسده.
هذا الوضع، حسب كرام، يتطلب إعادة ترتيب بناء العلاقة بين الإنسان والآلة، من أجل تمثل ما يحدث، بعيدا عن اختزال الوضع في مجرد تبخيس الجسد، والبحث عن الشهرة، وحصد الأموال الطائلة، والارتقاء بسرعة سريعة مثل القفزات الرقمية إلى طبقة اجتماعية تتمتع بوضع اقتصادي أفضل.
هذه الأوهام تجعل الفرد يقفز، لكنه لا ينتقل، من وضع اجتماعي معقد اقتصاديا إلى وضع قد يتجاوز الخيال، دون مرافقة واعية لهذه القفزة.
أحيانا، هذا الوضع يجعل الفرد يتخلى عن كل قيمه، التي يرى أنها قيم غير مربحة، وعندها يُفتح البابُ أمام كل الاحتمالات، بما فيها الجسد الذي يتحول إلى متجر لأجزائه، يوضع في وسيط شفاف، بعد أن تكون لعبة التمكين من تجزيئه، قد تمكنت منه ومن تجميله بمساحيق التكنولوجيا، التي تقدّم له كل مرة، وبسرعة، نموذجا للجمال، الذي يأخذ مفهوماً جديداً، يستجيب لحاجيات المشاهدة.
من أهم هذه الحاجيات، طبعا، النهش البصري، والإغراء الافتراضي. وكيف ينبغي أن يتجلى الجسد تكنولوجيا، حتى يتحول إلى معبرٍ، للمتابعة والمشاهدة والملاحقة، والنهش بالتعليقات التي كلما ارتفع رصيدها، نالت صاحبة، أو صاحب، الجسد أموالا طائلة، تُغني عن الحلم والطموح والوصول بالعلم والمعرفة، وتُلقي بالقيم إلى مزبلة منسية، لا تصل إليها شبكة الأنترنت.
ترى كرام أنه، لو ابتعدنا عن إيديولوجيات شركات التّكنولوجيا، وتحويل العالم إلى تفاهة، وِفق نظامٍ مُبْرمجٍ باستراتيجياتٍ، تتحكم فيها الخوارزميات، فإن ذلك لن يغيّب ما تقوم به الرقمية لتدبير تصورها للإنسان ومجتمعه وقيمه الجديدة، والتحكّم في عقله، وإفراغ تفكيره من السؤال حول: ماذا يحدث؟
وكيف أجني أموالا طائلة من مجرد عرض الجسد؟ ومن أين تأتي هذه الأموال؟ وكيف تأتي؟ ولماذا تأتي؟ هل مدبرو العالم كرماء إلى هذا الحد، بينما ما تزال مناطق في العالم، لا يدرك أفرادها معنى الاستحمام، من شدة فقرهم؟
هي أسئلة كثيرة، نناقش بعضها مع الباحث محمد شويكة في الجزء الثاني، ونعرض شهادات مغربيات يشاركن صور أجسادهنّ على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا أنستغرام.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- خطر الثورة الرقمية…هل نُسفت قيم الديمقراطية وصار الإنسان عاريا؟ 2/1
- من فرنسا، الباحث السوري وسام الناصر يكتب: الوجه الآخر لفيسبوك: مستنقع الكراهِية والعدوانيّة
- كوثر بوبكار، من أبرز الباحثين في ميدان النانوتيكنولوجيا في العالم، تكتب: ما بعد الحقيقة…
- تيك توك، إنستغرام، سناب شات… هوس الشهرة و “غزو الحمقى”