المرأة في قانون حمورابي: محاولاتٌ للإنصاف. ولكن… 3\3
تطرّقنا في الجزء الأول من هذا الملف إلى شخصية حمورابي ومصادر شريعته وانتهاله من القوانين التي سبقت إمبراطوريته، كما قدّمنا في الجزء الثاني أبرز سمات هذه الشريعة ومميزاتها وكذلك النقد الذي تعرّضت له والردّ عليه (تجدون روابط الجزأين في أسفل المقال).
في هذا الجزء الثالث والأخير، نبحثُ عن صورة المرأة البابلية في دولة حمورابي، على ضوء هذه التشريعات.
من البديهي، ربما، أنّه من الصّعب بمكان أن نبحث عن نموذج مكتمل للإنصاف والوعي بأهمية المرأة ومكانتها التي ظهرت حديثاً، والتي لازالت في مرحلة الحبوّ في عديد من المجتمعات، في نظام قانونيّ ينتمي إلى العصور القديمة.
لكن… هناك اجتهادات واضحة في قانون حمورابي، لا تعكسُ الوعي الحديث بالضرورة، إنّما توضّح كيف كان ينظرُ الإنسان القديم إلى المرأة، وكيف سعى في تقنين حقوقها.
بالاعتماد على ورقة بحثية بعنوان: “حقوق المرأة في الحضارة البابلية”، للباحث ياسين محمد حسين، وكتاب “شريعة حمورابي” لمحمود الأمين، نقدّم ملمحاً مهمّا عن المرأة في قوانين حمورابي.
بصورة عامّة!
عموماً، همّ قانون حمورابي شتى مناحي الحياة القديمة في بابل، وبالتّبعة مكانة المرأة البابلية وتقنين حقوقها؛ إذ تنقُل مصادرُ التاريخ أنّ المرأة في إمبراطورية حمورابي، تمتّعت بشخصية مستقلّة تتيحُ لها حُرّية التّصرّف القانوني بأموالها الخاصّة المستقلّة عن أموال زوجها.
لقد كان للمرأة أيضًا حق الترافع عن حقوقها والمطالبة بها أمام القضاء، وكانت تمارسُ العمل التّجاريّ بحرّية وتتولى الوظائف الإداريّة.
يؤكّد الباحث ياسين محمد حسين أنّ هناك كذلك “موادًّا قانونية عالجت أحكام الزّواج والطلاق والإبقاء على الزّوجة المريضة، وهدايا الزواج بعد وفاة الزوجة، وهبة الأب إلى أولاده في حالة الميراث والحرمان منه، والإقرار بالبنوة والتبني، وأموال الأرملة وزوجها، ومعالجة مسألة الرضاع، وموقف نساء العبيد، وتقسيمات المجتمع من أحرار وفلاحين وعبيد، وإيضاح أن العبيد لا يحق لهم تطليق زوجاتهم، بينما يحق ذلك للفلاح”.
مثلاً، تفرض التّشريعات على الزوج من الأحرار، أن يدفع للزّوجة مبلغًا من النّقود في حالة الطلاق، أما طبقة الفلاحين، فيدفعون ثلث هذا المبلغ. وكذلك يتبع الرقيق الأم دون الأب، فابن الحرة هو حرّ بالضرورة، ولو كان والدهُ رقيقاً، ونجلُ الرقيقة يعتبرُ رقيقاً حتى ولو كان أبوه حرًّا، والأطفال الذين يولدون من جارية السّيد يعتقون بقوة القانون هم وأمهاتهم بعد وفاة أبيهم.
خصّ قانون حمورابي المرأة الرقيقة التي تلدُ من سيّدها بحماية خاصّة، فهذه لا يجوزُ بيعها، غير أنّه يجوز تقديمها كرهينة كما كان متاحا مع الزوجة الشرعية في بابل وقتها. وعلى العموم، هذه الرّقيقة تعتق حين يتوفى سيدها.
المرأة وحمورابي
تطرّقت المواد، ابتداءً من المادة 127 حتى 184 من شريعة حمورابي، إلى أحكام المرأة وشؤونها ومحاولة توفير حماية جنائية ومدنية لها.
جاء في المادة 127: إذا طعن شخص بإيماءٍ منهُ شرفَ كاهنة معبد أو زوجة آخر ولم يثبت صحّة اتهامه، استقدم أمام القضاء ودمغت جبهته بعلامَات مميّزة.
ونصّت المادة 128 على أنّ “الرجل الذي يأخذ امرأة للزواج ولا يحرر لها عقداً بذلك، فهذه المرأة ليست زوجته”.
كما ورد في المادة 129 أنّه “إذا قُبضَ على امرأة سيّدٍ مضطجعة مع سيد ثان، فيجبُ عليهم أن يوثّقوها ويلقونها في الماء، ويمكنُ لزوج الزّوجة أن يبقي زوجته على قيد الحياة، إن رغب، كما يمكنُ للمالك أن يخلّص حياة أمته”.
أمّا المادة 130، فتقول: “إذا اغتصَب شخصٌ زوجة شخص آخر، لم تزف لزوجها بعد، وهي في منزل أبيها ثم قبض وهي في أحضانه، عوقب الشخص بالإعدام، وأخلي سبيل المرأة”.
بينما حددت المادة 133 عقوبة الرمي في الماء للمرأة التي يثبت عدم محافظتها على “عفتها” ونفسها، بعد أن يُفقد زوجها في حرب أو يتعرّض للأسر، ولديها ما يكفيها من الطعام. لكنّه يؤكد في المادة 134 أنّه لا ذنب للمرأة في مواعدة رجل آخر إذا لم يترُك لها زوجُها الغائبُ طعاماً في البيت.
من ناحية أخرى، شدّدت هذه المادة، أيّ 134 أنه إذا تزوّجت من رجل آخر، في غياب زوجها، وأنجبت منه، فإنّها تترك الأولاد معه وتتطلّق منهُ حين يعود زوجها الغائب.
بناء على ذلك، اعتبرَ كثير من الباحثين أنّ التّشريع بهذه الطّريقة يدلّل على أنّ المُشرّع قد قرن سُلوك الفرد بظُروفه الاجتماعية والمعَيشية.
في جانب آخر، تطرّقت المادّة 136 إلى حالة الزوج الذي أهان بلدته وهرب من الحرب، فإن زوجته التي دخلت بيت رجل ثان (تزوجت) لا ترجعُ لزوجِها الأول عند عودته في نهاية الحَرب.
وجاء في المادة 138: إذا أراد سيّدٌ أن يطلّق زوجته التي لم تلد له أولاداً، فيجبُ عليه أن يعطيها دراهماً بقدر مبلغ المهر، وكذلك يعطيها الأغراض التي جلبتها من بيت والدها بكاملها وعندئذ يطلّقها.
ثمّ تضيفُ المادّة 139: إذا لم يوجد مهرٌ، فعليه أن يدفع لها من الصداق ماناً من الفضّة.
المادة 144 نظّمت العلاقة بين المرأة الحرة والأمة والجارية. تقول: إذا تزوج رجل راهبة وأهدته هذه الراهبة أمة أنجبت له أطفالا ثم أراد الرجل الزواج من هذه الأمة حظر هذا الزواج.
مقابل ذلك، تقدم المادة 145 صورة أوضح لهذه النّازلة، جاء فيها: إذا تزوج رجل راهبة ولم تنجب له أطفالا، فعزم على التزوج من أمة، جاز له ذلك، كما جاز له أن يدخلها في منزله على ألا يجعلها بمنزلة الزوجة الأولى.
كما أوضحت المادة 148 حقوق الزوجة المريضة على الزوج: إذا أخذ رجل زوجة وداهمها المرض، فإذا عزم أن يتزوج ثانية، فيمكنه أن يتزوج، ولا يحق له أن يطلق الزوجة المريضة فتسكن في البيت الذي بناه، ويستمر في تحمل مسؤولياتها طالما هي على قيد الحياة.
… في زمن أعادت فيه قوانين حمورابي عرف رهن المرأة، الموجود في بلاد النهرين حينها، عبر تنظيم العلاقة بين الزّوج والزّوجة، وأبيحَ للزّوج أن يرهن زوجته لقاء ديون عليه، فإن هذا الأمر صار مقنّنا بدوره.
بهذا المعنى، همّت المادة 151 مسألة رهن الزوجة مقابل الدين، لكن بمنح الحق للزوجة أن تعترض عبر اشتراط ذلك مسبقاً. جاء في القانون: إذا اشترطت زوجة تعيش في كنف زوجها شرطا موثقاً على رقيم مختوم، بأن لا يقدم الزوج زوجته رهينة لدائنه، مقابل الدين الذي ترتب على الزوج قبل الزواج، فليس للدائن أن يأخذ الزوجة رهينة نظير الدين.
من الواضح أنّ هناك مواد قانونية كثيرة تعنى بالمرأة وتقنين علاقاتها من الزواج وغيره، لكن لا يسعُ المجال لعرضها جميعاً.
مع ذلك، تكفي مسحة بسيطة لقوانين حمورابي ليتّضح أنّه، بالفعل، تعمّق في مسألة المرأة، ومنع الرّجل من حق التطليق المزاجي، وحصره في حالات معينة، مقابل منح المرأة حق الطلاق في أي ظرف أرادت. ولعلّ هذا يعد من الحقوق والامتيازات المتقدمة لحقوق المرأة في قانون حمورابي.
مما لا يسعُ القفز عليه أنّ مواد هذا القانون ضمنت مساواة بين أبناء الزوجة وأبناء الأمة التي اعترف الأب ببنوة أبنائها بالإرث. فضلاً عن إقرار تحرير المرأة الأمة وأبنائها بعد وفاة زوجها إذا لم يعترف ببنوته لهم، ولا يجوز لزوجة المتوفى أو أولاده التحكم بهم مطلقاً.
يشيرُ الباحث ياسين محمد حسين أنّه في حالة “إساءة الأبناء معاملة الزوجة وأرادوا إخراجها من البيت بعد وفاة زوجها، على القضاء معاقبة الأبناء وإبقاؤها في بيت زوجها، وللفتاة المتزهدة في المعبد حق الإرث عند وفاة أبيها، حيث منحها المشرع حصة مساوية لبقية الورثة، ويعود میراثها بعد وفاتها إلى إخوتها”.
كما يضيفُ أنّه على الرغم من أن قانون حمورابي قد عالج أغلب القضايا، ومنها شؤون الإرث، “إلا أن هناك الكثير من الجوانب ظلت غامضة مثل مقدار حصص الأبناء الذكور والإناث، أو مقدار حصص الأبناء الطبيعيين والأبناء المتبنين أو أبناء الأمة”.
في النهاية، تبقى المرأة البابلية، على ضوء قوانين حمورابي، منتهكة الحقوق بوصفها مملوكة لا شخصية مستقلة لها، ويجوز رهنها. لكنّ شريعة حمورابي، بالنّقيض، تُفصحُ عن حقوقها في التملك وحرية التنقل وممارسة التجارة وحقها في التمدرس، حتى أنّه رُويَ أنّ منهن كاتبات وموسيقيات ومعلمات للصبيان…
إنها، عن جدارة، محاولة جميلة للإنصاف في التاريخ، غير أنها مكبّلة بأدوات الشّرط وعلامات الاستفهام!
على سبيل الختم، جازَ القول إنّ تلك السّمعة التي نالها حمورابي بوصفه المشرِّع الرائد في التاريخ القديم يستحقّها عن جَدارة. إنّه جاء بقوانين سابقة لأوانها، وظلّت محوراً أساسيًّا لكلّ دراسَة ترُوم الإمساك بالظّاهرة القانونية… على ضوء التاريخ.
إنّه حمورابي الغائب عن العالم، والحاضر بقوّة الشّيء المقضي به، في دفاتر التاريخ.
- الجزء الأول: قانون حمورابي… حين اهتدى الإنسان القديم إلى نُضج “التشريع”! 1\3
- الجزء الثاني: قانون حمورابي: ملامحُ تشريعٍ عنوانُه “القصَاصُ” حيناً و”الحدَاثةُ”… حيناً! 2\3