“المجتمع لم يستوعب أننا نمارسُ مهنة”… صرخة نادلات الحانات بالمغرب - Marayana - مرايانا
×
×

“المجتمع لم يستوعب أننا نمارسُ مهنة”… صرخة نادلات الحانات بالمغرب

تحملن الطّلبات بمرح شديد؛ ولا تبدو عليهنّ علامات الخوف أو التحفّظ. معهنّ تنطلق رحلة مرايانا من حانة إيطالية بقلب العاصمة الرباط. تُعامل النّادلات هنا الكلّ بالتّساوي، ولا تميزن بين زبون وفيّ للحانة وزبون عابر أو جديد. هما اثنتان، فاطمة الزهراء وابتسام؛ ترتديان زيًّا أسودا لتميّزان نفسيهما وتُظهران هويّتهما… كنادلات. فما معنى أن تكون المرأة “بارميطا” في مجتمعنا؟

تتقدّم فاطمة الزّهراء نحونا، وابتسامتها لا تغادرُ عملية تلقي الطّلبات. تشرحُ لنا العروض الجديدة بالحانة بحماس؛ وتتحدّث بهدوء وحزم، لتدفع كلّ “دخيل” لمعرفة الحدود ضمنيًّا. أفصحنا لها عن الاستطلاع، فقبلت، بفرح، التحدّث إلينا عن مهنتها.

“نمارس مهنة ونعتبرها شريفة!”

تقول فاطمة الزهراء إنّها مخطوبة؛ بيد أنّ المثير في ما ترويه أنّها أقنعت خطيبها بالتمسّك بعملها وطلبت منه المجيء والجلوس متخفّيا داخل الحانة، ليعرف كيف تتعامل مع الزّبناء، وكيف يتعاملون بالمقابل، ليتأكد أنّها تمارس عملها بشكل احترافي: تقديم الطلبات للزبائن، وليس شيئا آخر.

تقول: “أنا درست لأشتغل هذه المهنة. وأحب عملي جدا. المجتمع لن يستوعب أننا نمارسُ مهنة خاضعة للتّبادلات التجارية الاحترافية. المجتمع يربط هذه المهنة، جدليًّا، بالتفسّخ والانحلال؛ لكني مقتنعة بأنّ عملي شريف، ولا أسمح لأي كان بالخروج عن إطار المعاملات التبادلية هذا”.

جوابا عن سؤال مرايانا بخصوص واقع التّحرش بالعمل، تؤكّد فاطمة الزّهراء أنها “طيلة ممارستها، لم تتعرض للتحرش، لأنه ليست لأحد تلك الجرأة، أصلاً، أن يبادر ما دام التعامل يتم باحترام متبادل”.

تواصل قائلة: وحتى إذا بدا لي أنّ زبونا سيزعجني بنظراته أو يشوش عليّ بشكل مجانيّ وبدون جدوى، فالجميل أنّ مشغلي الإيطالي يمنحني الحقّ لكي أنادي على حارس البوابة ليخرجه فوراً.

“أعتقد أنّ التّعرض للتحرّش رهينٌ بطريقة التحاور. أتعامل بلطف وأبتسم، بيد أني أحرص ألاّ يرى الزبون في ذلك تلميحا أو دعوة متوارية خلف الابتسامة… لشيء ما لا علاقة له بعملي هنا”، تقول فاطمة الزهراء.

محدّثتنا تضيفُ أنّها مرتاحة ماديّا في عملها، وأجرتها مثل أي أجرة محترمة أخرى بالمغرب، وأفضل من بعض المهن الأخرى من حيث الدخل. توضح: هنا أقصد فقط أجرتي الصافية، التي أتلقاها شهريا، فهي جيدة بالنسبة لي، لأنها تخول لي العيش بكرامة، دون الحاجة لأيّ شخص آخر.

ننتقل لحانة غير بعيدة عن الحانة الأولى، لكنها أقلّ هدوءا وأكثر صخبا من الحانة السّابقة. هذا البار ممتلئ حدّ التخمة، ربما لأننا قصدناه في وقت متأخر من الليل. الأضواء المتحركة بسرعة تربك البصر، ومكبرات الصوت تزعج أجهزة السّمع.

تستقبلنا هاجر، فتاة تبلغ من العمر 26 سنة؛ تسكنُ بأحد الأحياء الشّعبية بالرباط. لم تتردد كثيرا في الحديث. بيد أنها ألحت على ضرورة عدم تضمين اسم الحيّ الذي تسكنه أو موقع الحانة التي تشتغل بها، لكي لا يثير لها ذلك أية مشاكل مع مشغلها.

تتحدثُ هاجر بصوت شاحب وملامح يبدو عليها العياء، وأصوات الموسيقى تخترق حديثها مع مرايانا. تقول: أنا أشتغل هنا منذ سنوات، وأعتبر نفسي نادلة فقط. لا أمتهن بيع الجنس. والديّ يعرفان أنّني نادلة، فقط.

هناك زميلات لهاجر يفضلن قضاء الليلة مع زبون ببيته، لكنها ضد ذلك: “أمارس عملي وأذهب للبيت. أعيل أسرتي ووالديّ وأخي الصّغير الذي يدرس بالإعدادية. أخي يتعرض للتّنمر أحيانا، لكن أبي يقنعه دائما أنني أشتغل عملاً لا يسيء إليّ. أبي يثق بي، ويعرف من أكون”.

لا تشكل لهاجر مهنتها أيّ حرج، لكنها متخوفة جدا بخصوص صحة شقيقها النفسية، لأن “زملاءه يحاكمونه بأشياء لا علاقة له بها”.

وأمّا عن التّحرش، فهي توضّح أن “هناك من يأتي إلى هنا لذلك الغرض أصلاً. لكي يصطحب فتاةً ما من البار. يحاول الكثير من الزبناء التودّد لي بشكل يوحي أنه تحرش مقنع، وهناك من يتحرش صريحا بدعوة للجلوس في الطاولة للتفاوض على أشياء خطط لها في ذهنه، إلخ”.

لا تحب هاجر إثارة المشاكل، وتعتذر من الزبون الذي يحاول “غوايتها”؛ هنا تفيد: مع ذلك، يعتبرونني متكبرة. قبل سنة سألني أحدهم: “علاش خدامة هنا يلا مبغيتيش” (لماذا تشتغلين هنا، إذا كنت لا تريدين ممارسة الجنس بمقابل مادي؟).

المشكل في الفضاء؟

في حانة أخرى متواجدة داخل حيّ أكدال بالرباط، تعبّر لنا النادلة، واسمها غزلان، على أنّ المشكل هو في تمثّل الناس للفضاء، حيث توضّح: “أعرف أنّ الناس لديهم مشكل أن نشتغل في حانة، وأحيانا حتى في مقهى، خصوصا أن الخمر حرام والقهوة حلال في تصوّر المجتمع، برغم ما في ذلك من مغالطات. بالتالي، فبالنسبة لهم، الحانة مكان تدور فيه المحرمات وكلّ شيء فيها ممكن.

“أعني أنهم يعتبروننا “عاهرات” لأننا نادلات؛ رغم أني درست الفندقة، وأشتغل في هذا المطعم بكافة حقوقي ولدي انخراط بصندوق الضمان الاجتماعي، ومشغلي يرفض أن نأخذ “البقشيش” لأنه يقدم لنا أجوراً ممتازة”، تفصل غزلان.

النادلة حين تتواصل معنا تؤكد أنها مطمئنّة لعملها. لكن، لماذا؟ 

“لأن المكان الذي أشتغل به، يأتي له الناس المهتمون بالكحول والحياة الليلية عموما. بمعنى أنّ هؤلاء يفترض ألاّ تكون لديهم أية أحكام قيمة تجاه المشتغلين في هذه الفضاءات. هذه المهنة لا يمكن أن تقوم بها إذا لم تكن شغوفا بها.

هناك من يحترفها بسبب العوز وقلة الحاجة وانعدام البديل. التعامل مع السكارى أو نصف السكارى أمر مرهق للغاية. بعضهم يعتقد أنه بمجرّد أنّه يرتاد هذه الحانة بشكل متواصل، فذلك يبيح له أن يحصل على أي شيء منها، حتى نادلاتها”.

هكذا تجيبنا غزلان، قبل أن تستطرد: “هناك تصورا خاطئا يعتقد أن النساء موجودات في البارات فقط لاستمالة الزبناء. هذا ليس صحيحا بإطلاق، وإذا كان موجودا حقا، ففي أماكن معينة يراد لها ذلك؛ربما، بتواطؤ بين النادلة ومشغلها أو احتمالا كشروط تملى على النادلة، باعتبارها الحلقة الأضعف”، تفيد محدّثتنا.

تستطرد المتحدثة باعتزاز وحسرة في ذات الآن: “أعدّني محظوظة أنني تقدمت لهذا العمل وتم قبولي بكافة شروط الشغل. مهنة النادلات تحتاج إلى تقنين مثل بقية المهن، ويجب أن تخضع في المجمل لشروط مدونة الشغل. التقنين وحده يمكن أن يخرج مهنتنا من نطاق الرّحمة والإحسان والاشتغال في الظلّ”.

وقبل أن تذهب للترحيب بزبناء آخرين، تختم غزلان بنقطة مهمة، حيث تقول: حين نشتغل في “النّْوار” ونقبل بالشروط فقط من أجل العمل، تكون حياة النادلة المهنية متصلة، حصراً، برغبة المشغل. ففي أي لحظة يمكن أن يطردها، دون أدنى حقوق متخيّلة”.

هكذا، فإذا كانت الوضعية الشغلية والمادية مريحة بالنسبة لفاطمة الزهراء وغزلان، فالوضع ليس كذلك بالنسبة لهاجر؛ حيث تصرّح الأخيرة: أشتغل هنا بناء على عقد أخلاقي مع صاحب الحانة. الأجرة زهيدة، لكني أعول فقط على هبات الزبناء الرمزية للتنقل.

تخلص هاجر قائلة: في الحقيقة، لا أعرف لماذا أشعر أن زميلاتي، لو كان لهنّ أجر جيد، لما قررن امتهان الجنس بعد العمل. سيكتفين بعملهنّ كنادلات فقط. تخبرني معظمهنّ أن الاحتياجات كثيرة والمدخول متواضع، خصوصا أنّ التنقل بعد منتصف الليل يكون ثمنه مرتفعاً هنا بالعاصمة. كم يؤلمني أنّ الجميع يعتبر مضاجعتنا أمرا ممكنا، فقط لأن مجتمعنا قدم له شيكا على بياض لذلك.

مهنة غريبة عن مجتمع!

من ضمن التّفسيرات لتلك النظرة الدونية لعمل النادلات، تفسير يتوجه بالاتهام صراحة للإعلام والسينما المغربيين، لكونهما ساهما لعقود طويلة في تكريس صورة سيئة ونمطيّة عن المرأة التي تشتغل في الحانات كنادلة.

وهذه الصورة النمطية صارت من الكليشهات أو من البديهيات عند معظم العوام من المغاربة: أنّ العاملات في الحانات يمتهنّ بيع الجنس بمقابل مادي.

لكن… هل سقط المجتمع في فخّ التعميم؛ فكانت النتيجة: الإساءة للمرأة المشتغلة في البارات إجمالاً؟

بالنسبة للباحث في علم الاجتماع بكلية ابن زهر بأكادير حمزة الرتيبي، فهذه المهن التي تخص المرأة، وخصوصا المتعلّقة بالحياة الليلية وما يدور في فلكها، هي جديدة نسبيّا على المجتمع المغربي؛ جديدة طبعا بالمعنى المهني، لأنه كانت هناك نساء تشتغلن في الحانات منذ وجدت الأخيرة بالمغرب.

الفارق اليوم، بحسب ما فسره الرتيبي لمرايانا، أنّ المجتمع تطور وشكل الحياة تغيّر وخرجت المرأة إلى سوق الشغل واستقلت بذاتها، وبدأت تمارس مهنا تميل إليها وتجد فيها شغفها. هذه المهن، خصوصا المتعلقة بـ”البارميطات”، زعزعت بعضا من التصورات المجتمعية، إذ صارت المرأة موجودة في كل مهنة ممكنة، بعضهنّ بسبب الحاجة والبعض الآخر بسبب الحبّ لمهنهنّ.

بالنظر إلى تركيبة المجتمع، يرى المتحدث أنه من الطبيعيّ ألاّ يقبل مجتمعنا وجود امرأة في حانة، لأن الغالبية غير معتادة على ذلك. كما أنّ هناك من لازال يؤمن بالقوامة، وأنّ مكان المرأة هو المنزل. نحن نتحدث عن مجتمع مسلم في غالبيته، أو يدعي ذلك.

لكن، ينبغي على المجتمع أن يعيَ أن أحكام القيمة المسبقة ليست بالضرورة صحيحة، وأن يفطن أفراد ذات المجتمع أنّ إطلاق الأحكام داخل بيئة ما أصعب بكثير من عمليّة سحبها.

الوضع الاقتصادي الهش، جعل الاشتغال في أي شيء ممكنا بفعل النقص في العرض والكم الهائل في طلبات العمل. هذا دون أن ننسى أن هناك سيدات اخترن هذه المهنة بشغف وبعد دراسة، كما شاهدنا في بعض الشهادات أعلاه.

لذلك، فالسؤال الحقيقي ليس هو: هل تلك المهنة “حلال” أو “حرام”؛ بقدر ما ينبغي أن يكون: كيف السبيل إلى تحسين ظروف كل المشتغلات كنادلات في البارات الشعبية والراقية، وكذلك في المقاهي والمطاعم؟ سؤالٌ سيظلّ مفتوحا، حتى “تغلقه” الجهات المختصة.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *