اللاإنجابية في المغرب: الأطفال ليسوا قدرا محتوما
يقول عبد الله العروي في خواطر الصباح (1963 – 1973): “تزوّجت المرأة الوحيدة في البلد التي ترفض الإنجاب”. يتحدّث العروي، هنا، عن زوجته لطيفة التي أنجب منها ابنه عصام. يقول العروي عن الأخير، في ذات الفقرة: “كنتُ راضيا بعصام، وبه وحده. لكنّ الأطباء يغرون النساء بقولهم، الحمل يعيد الشّباب”.
يوضّح لنا بوح العروي هنا، موقفه من الإنجاب. ويعنينا أكثر أنّ قوله يعود إلى ستينات وسبعينات القرن الماضي، ولو أن الخواطر طُبعت في القرن الواحد والعشرين. يحيلنا هذا، أيضا، على أنّ اللاإنجابية ليست وليدة الزمن الحالي كما يشاع، وإنما كانت، ربما، سليلة الفكر والثقافة، قبل أن تتخلص من نخبويتها، وتنزل عند جزء لا يستهان به من العامة… الذين تعرض مرايانا بعضًا من حكاياتهم وتصوّراتهم في الأسطر القادمة.
“العالم كارثيّ ولا جدوى للإنجاب”
تصرّح فاطمة الزهراء الرّيطب، (22 سنة) منذ البداية أنّها ضدّ الإنجاب، وترجع الاعتقاد إلى زخم من الأسئلة التي تراودها: هل لي الحق في أن أنجب شخصا كي يعاني في هذه الحياة؟ يكون الجواب بالنفي. لا أحد منا يعيش حياة سعيدة كلية، وحتى إن لم يكن الأمر كذلك فأغلبنا يعاني من قسوة الحياة. بالتالي، لماذا سأنجب شخصا كي يعاني هو الآخر؟ لماذا سأقذف به في حياة لا معنى لها، وأتركه هو الآخر حائرا في أسئلة، ربما قد لا يجد أجوبة لها؟
من جهة أخرى تستمرّ فاطمة الزهراء في التساؤل: لماذا أريد أن أنجب؟ هل لصالح الطفل؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي مصلحته في أن يولد؟ إذا لم يولد لن يذهب لا إلى الجنة ولا إلى الجحيم، وفق مقولات الدين الخالصة، وهذا أفضل بالنسبة له، كي لا يشارك هذه الدنيا فظاعتها. قد يبدو لي أنني أريد أن أنجب لمصلحتي الخاصة، إما لكي أصنع منه شيئا لم يكن بمقدوري الوصول إليه، إما لكي يكبر و يعيلني، وإما لكي يؤنسني لأنني وحيدة. أليست هذه هي الأنانية بعينها؟
تبرز أيضاً: لنفترض أنني أنجبتُ هذا الطّفل، كيف سأربيه؟ أنا لازلت في حاجة إلى تربية. ما الذي يجب علي أن أسمح به؟ وما الذي لا يجب علي أن أرفضه؟ ماذا لو مات والده أو مت أنا؟ ماذا لو انفصلنا؟ كيف ستكون حياة هذا الطفل؟ كلّها أسئلة تراودني وتجعلني أعتنق فكرة اللاإنجابية على نحو “اليقين”.
كخلاصة، تجد الريطب في تصريحها لمرايانا، أن البعض يقولون إنّ هاته الأفكار خاصة ببنات عمر العشرينات وأنها لن تستمر معي، فهل هذا صحيح؟ لا أدري. لكي أكون واقعية أكثر، سأقول إنه من الممكن أن أغير رأيي، فقط، إذا ما وجدت أجوبة مقنعة لهذه الأسئلة. عكس ذلك، فأنا لا زلت محتفظة برأيي هذا.
كما تقول المتحدثة: أود أن أشير هنا أنني أؤمن بالمقابل أنه عوض إنجاب طفل ينضاف لهذا العالم الكارثي، أفضل أن أتبنى طفلاً وأنقذه من بؤس ما. ثمّ أوفّر له الدّفء و”الأمومة” والحنان والرّعاية والاهتمام. هذا سيكون تصحيحا لخطأ وارد في خريطة جنسية ممزقة بالنّسل. وسيكون أفضل من تكرار ذات الخطأ، مع أنه ليس حتميًّا أن يتكرر.
“اخترتُ اللاإنجابية بعد تجارب مريرة”
“أصول اعتناقي للاإنجابيّة ذاتية، تتعلق بأبي الذي كان سببا في فوضى من النسل داخل عائلتنا. لوالدي زوجتان. وله في المجمل أحد عشر ابناً وابنة. كنت ألاحظ المشاكل الكثيرة بين إخوتي والصراعات والمكائد لأجل إرث زهيد حتى قبل وفاة والدي. لم تكن لوالدي مسؤولية تجاهنا، وكانت أمي تتكفل بشؤوننا وأمورنا. حين نضجت قليلاً وفطنت لما يجري، بتّ أرفض في سنّ مبكرة، أي في الثّامنة عشرة تحديداً، أن أنجب أطفالاً ليعيشوا ما عشته أو يشاهدوا ما شاهدته في جو عائلي مسموم للغاية”… هكذا يتحدّث أبوب الذهبي عن اعتناقه لهذه الفلسفة.
يستطردُ الذهبي في حديثه مع مرايانا قائلا: أفكّر ألا أتزوج أصلاً، لكني مؤمن بالمساكنة مع المرأة التي تتقاطع معي في طُرق التّفكير وفي العقائد الإنسيّة النّظيفة. وأن تعتبر منطق اللاإنجابية حلا أخلاقيًّا لنسل يتسم بالفوضى واللانظام. أحيانا الاختلاف في الرؤى مفيد في العلاقات، لكن في هذه النقطة بالذات يغدو الأمر أكثر تعقيداً. وصراحةً، لا أقيمُ لتلك الرّوابط التقليدانيّة بين الزّواج والإنجاب أيّ وزن في ذهني حتّى.
بالمقابل، يعرف أيوب أنه يندر العثور على شريكة تعتنق اللاإنجابيّة، لكون الفكرة لازالت محتشمة، لكنه يلاحظُ، بحكم عضويته في مجموعات فيسبوكية تضم اللاإنجابيين، أنّ هذه الفلسفة آخذة في التجذّر لدى جزء من الشّباب المغربي على وجه الخصوص.
يجملُ أيوب بقوله: بحثت عن هذه الفلسفة فيما بعد، وتأكدت أنها هي ما يناسب حالتي النفسيّة والفكريّة والوجدانيّة. أحبّ الأطفال كثيراً، لكني لا أستطيع أن أجلب طفلاً للعالم، قد يتساءل لماذا جئت به إليه. بمعنى أني لا أجد تسويغا لكي أقرر بدلا عنه بأن يأتي للحياة. من ناحية أخرى، لا ضير في أن أربي كلبا أو قطّة تخلق نوعا من المؤانسة لي، أو لنا أنا وشريكتي المفترضة. لكن، رغم ذلك، أجد أنّه بحكم بعض القوانين الجنائية بالمغرب، أرى أن بعض أفكاري اللصيقة باللاإنجابية، كالمساكنة خارج إطار الزواج، تظلّ نوعا من المخاطرة.
“رحلتي مع حبوب منع الحمل”
ترفض أمال التصريح بهويتها الكاملة، غير أنها لا ترفض الاعتراف بأنها لا تريد نهائيا أن تنجب.
تقول: لست على استعداد لكل تلك الآلام البيولوجيّة: الحمل والولادة. أعرف أنّ ذلك سينال من صحتي النفسية والجسدية، ولذلك أفضل ألاّ أنجب في الأساس. زوجي متفهم لهذا الأمر، وهو يتقاطع معي كثيراً في الموضوع؛ رغم أنّ عائلته تلحّ على ضرورة الولادة، لكنّي أرفضُ أن يقرّروا هم مكاني، لأنه لا أحد سيتحمّل معي تلكَ الأعباء. أنا وزوجي مرتاحان بهذا الشكل، وهم يعتقدون أنني عاقر، رغم تأكيدنا الدائم أنه اختيارنا وليس عقما لدى أي منا.
توضّح المتحدثة ضمن شهادتها لمرايانا: لا أتخلّص من حبوب الحمل، التي ترافقني على الدّوام، وأحيانا نتفق أنا وزوجي أن يكون القذف في الخارج، لضبط الأمر وعدم الوقوع في أي خطأ محتمل. وحتى لو حدث يوما ما، فسنرضى بالأمر الواقع، وسنتقبل الطفل أو الطفلة ونتفهم أنه هو اختارنا على شكل استعاريّ. أنا ضدّ التوقيف الإرادي للحمل، ولكني أتفهم النّساء اللائي قد يوقفن حملهنّ إراديًّا لسبب يخصهنّ حصراً.
ثمّ تختمُ بالقول: هذا الاختيار غير مقبول لا من طرف أسرتي ولا من طرف أسرة زوجي، ولا حتى من جزء من محيطي، الذين يدافعون عن الإنجاب وعن أهمية الولادة في العلاقات الزوجية. غير أنني أعتبرها قناعات تلزم أصحابها كما تلزمني قناعاتي بمعية زوجي أيضا. لا أعتبرهم على خطأ لأن التقديرات في الحياة تختلف إجمالاً، ولكلّ ظروفه، وكما قلت أنا ضدّ الإنجاب لأسباب صحيّة محضة.
اللاإنجابية: سياقات ومآلات…
علي الشعباني، أستاذ باحث في علم الاجتماع بالمعهد الوطني لتكوين الأطر، يعتبر أنّ الدول الكبرى نجحت في التسويق لسياسة تنظيم النّسل، عبر دعاية هائلة عُبِّئت لها الموارد والتجهيزات والاستراتيجيات، لكنها أحيانا آتت أثراً عكسيًّا يتجلى في رفض الإنجاب أصلاً.
الشعباني يعتقد في تصريحه لمرايانا أنّ الشباب بالمغرب خصوصا، بين أنّ مجتمعنا المغربي وثقافتنا الشعبية تعيشان مخاض تحولٍّ هائل قد يزعزع التقاليد المتوارثة والأعراف المحلية. هذه التحولات غيّرت شكل الحياة وتمثل المغربيّ للوسائل والإمكانات المتوفرة، وتبدل علاقة الفرد حتى مع نفسه، قبل أن تتغير مع محيطه.
من جهة أخرى، يعتقد سفيان حرقي، طالب باحث في التاريخ والأنثروبولوجيا، أنّ فكرة اللاإنجابية لازالت مُحاصرة ومحدودة رغم اعتناقها من طرف الكثيرين من المغاربة، خصوصا من الفئة المثقفة، التي تدرك، أنّ الأصل هو الاختلاف في الرؤى داخل أي ثقافة. لكن، بحكم التكوين الإسلامي السّائد، فإن جزءا كبيرا من المغاربة يقدّسون الإنجاب والنّسل، خصوصًا في القرى والبوادي النائيّة.
كما أنّ معظم المغاربة يفرحون بالأطفال، ويقيمون حفلات عقيقة كبرى، تأصيلاً لعلاقة هؤلاء بالنسل والاستمراريّة والنظر إلى ذلك على نحو اعتباريّ… لكن من حق المغاربة، سواء المسلمين أو غيرهم ألاّ ينجبوا أساسًا.
يضيف حرقي، في تصريحه لمرايانا، أنّ هناك عوامل كثيرة ساهمت في لجوء الشّباب إلى خيارات كثيرة مُتاحة لم تكن معروفة من قبل، مثل ارتفاع منسُوب الحريات الفرديّة والرّغبة في عيش التجارب الحميمة خارج الأنساق القديمة. فضلاً عن رفض فكرة الزواج، التي أدت إلى انخفاض مؤشر الخصوبة في المغرب، وبالتالي صعود نجم اللاإنجابية.
مقالات قد تثير اهتمامك:
- الأطفال المتخلى عنهم في المغرب: حين يصبح الحب جريمة بأرقام مرعبة 1/2
- كفالة الأطفال: حين يتّفق المجتمع والقانون على… أن تكون ضحيّة حياة!
- حقوق النساء: مقترحات “أنفاس” لتقنين الإيقاف الإرادي للحمل
- قرى الأطفال SOS المغرب… حين تمنح الحياة للأيتام والمتخلى عنهم فرصة “العائلة” مرة ثانية! 2/1
- مديرة قرية الأطفال SOS بإمزورن: هكذا تشتغل قرى الأطفال المغرب وهذا مصير هؤلاء بعد سن الرشد… 2/2
- سناء العاجي تكتب: صوفيا تغتصب الأمهات العازبات
- إلى جانب الفقر… “أستاذ بيدوفيل” يفجع أطفال أكثر المناطق تهميشاً بالجنُوب الشّرقي