هوس الكمال… هوس الجمال - Marayana - مرايانا
×
×

هوس الكمال… هوس الجمال

مع التطور التكنولوجي الذي نشهده اليوم، أصبح تطبيق هذا الهوس سهلا. فبدلا من ارتداء الأغلال وغيرها، تكتفي بكبسة زر على برامج الفوتوشوب والذكاء الاصطناعي

لا يختلف عاقلان في أن الجمال أهم ما يسعى إلى تحقيقه الإنسان؛ فما أجمل أن يكون مظهره جميلا ومرتبا! ما أجمل أن يكون ذا شخصية جميلة ومبهرة ! هذا لطيف بل وجميل جدا. لكن، بشرط ألا يتجاوز حده ! فإن تجاوز حده ومقاديره الطبيعية صار هوسا.

مع الأسف، أصبحنا اليوم نعاصر انحيادا عن هذه الرغبة العادية الطبيعية، وصرنا نتوجه نحو الهوس.

في ثقافة بورما مثلا، كان الجمال عندهم متعلقا بطول الرقبة: كلما كانت رقبة المرأة طويلة، كلما كانت جميلة. نتج عن ذلك هوس بأن تصير كل النساء ذوات رقاب طويلة، فأصبحن يلبسن بناتهن حلقات على رقبتهن منذ الولادة، ويضفن حلقة كل فترة حتى تتجاوز الثلاثين، فتصبح كالأغلال في أعناق الفتيات الصغار. لنتخيل ثقل وعذاب هذه الأغلال! لكن هذا لا يختلف كثيرا عن واقعنا الحالي، لكن بصورة عصرية ومتطورة.

مع التطور التكنولوجي الذي نشهده اليوم، أصبح تطبيق هذا الهوس سهلا. فبدلا من ارتداء الأغلال وغيرها، تكتفي بكبسة زر على برامج الفوتوشوب والذكاء الاصطناعي؛ فيصبح لدى الإنسان نسختان مختلفتان كل الاختلاف: نسخة واقعية وأخرى وهمية افتراضية موافقة لكل معايير الجمال تدخل الإنسان في دوامة من الوهم والكذب. أحيانا، لا يكتفي الإنسان بهذه النظرة الوهمية والافتراضية، بل يتمادى إلى تحقيقها في الواقع باتجاهه نحو العمليات البلاستيكية التجميلية.

مع تزايد هوس الجمال ومحاولة مواكبة معايير الجمال العالمية، أصبحت عمليات التجميل من الحلول التي يتجه إليها الناس، ذكورا وإناثا. لم تعد هذه العمليات حكرا على النساء فقط، بل للرجال أيضا نصيبهم من ذلك؛ حيث لم يعد هوس الجمال أنثويا فحسب بل صار يشمل الجنسين معا على حد السواء.

السؤال الذي يراودني دائما: من هذا الذي يصنع معايير الجمال ليصير العالم مهووسا بها؟

والسؤال الأساسي هو: أين يتم استعراض هذا الهوس ؟

مواقع التواصل الاجتماعي هي حلبة المصارعة التي يستعرض فيها الناس هذا الهوس الجمالي، فيتنافسون في ذلك أحر المنافسة. ينتقل فيها هذا الهوس كالعدوى الفيروسية بين الناس، لتصيب الكبير والصغير.

لذا، فكما تقوي مناعتك ضد الفيروسات، يجب أن تقويها ضد هذا الهوس. والكبسولة المضادة له هي التقبل: تقبل النقائص والعيوب.

السؤال الثاني الذي تبادر إلى ذهني الآن: هل الهوس يقتصر على الجمال الخارجي فقط ؟ الجواب: لا.

إن كان هوس الجمال الخارجي يقتصر على تكميل المظهر الخارجي، فهناك هوس أقوى وهو هوس الكمال الداخلي.

أصبحنا نعاصر اليوم موجة من محاولة الوصول إلى الكمال الأخلاقي والديني والاجتماعي. أصبح الجميع يحاول أن يبلغ الكمال في مجتمعه بألا ينسب إليه أي خطأ. بل وقد أصبح المجتمع نفسه لا يتقبل فكرة الخطأ والزلل.

في الدين مثلا، ينسى المجتمع أن الدعاة بشر أيضا، والبشر يخطئ. فلماذا نضع الدعاة في خانة مخصوصة بعيدة عن البشر ؟  لماذا نرجو ممن نضج في العلم الشرعي أن يكون مثاليا وكاملا وألا يخطئ ؟ العالِم عالم بعلمه لا بفعله. لأنه قد يصيبه ما يصيب البشر عامة من الخطأ والزلل.

في أحد الأيام ركب طالب علم شرعي سيارة أجرة، فسأله السائق عن الوجهة، ولما أجابه الطالب توجه إليه بأسئلة كثيرة وأحكام مسبقة، مبنية على هذا الهوس الكمالي الذي أصاب العالم اليوم. فسائق التاكسي هذا ما هو إلا مثال من مئات الأمثلة في المجتمع التي تؤكد مدى تغلغل هذا الهوس الكمالي في ثنايا المجتمع.

وقد ينتج عن هذا الكمال شكل من أشكال النفاق الاجتماعي؛ بأن تظهر الكمال الوهمي وتضمر النقص المجبول. أن تحب السهرات والحفلات وتذهب إليها سرا. ثم تكتب على صفحتك بالفايسبوك: “لقد زاغ شباب اليوم بذهابهم إلى السهرات والحفلات..”. أليس هذا هوسا ؟ هوس السعي لأن يراك المجتمع إنسانا كاملا وألا يلمحوا ملامح النقص التي هي في الحقيقة مجبولة فيك.

نحن بشر، نخطئ ونتوب ولم يسم الله نفسه بأعظم أسمائه “التواب” إلا لعلمه أن الإنسان يخطئ: “كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”. الإنسان الذي يخطئ ويتوب أعظم من الإنسان الذي لا يخطئ أبدا، لأن المذنب التائب يعود دائما إلى ربه ويرجو رحمته، أما الذي لا يخطئ يطغى ويتعالى.

الجمال جمال التقبل: تقبل النفس قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا. أن تتقبل عيوبك الخِلقية وترى فيها جمالك وفرادتك. أن تتقبل عيوبك الخُلقية وتجاهد نفسك بقدر طاقتك على أن تحسن وتطور منها دون أن يصير ذلك هوسا.

فأين نحن من التغيير ؟

مواضيع قد تهمك:

 

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *