المدارس الحرة: أمّ الحركة الوطنية المغربية… التي “تلاشت” بعد الاستقلال 2 - Marayana - مرايانا
×
×

المدارس الحرة: أمّ الحركة الوطنية المغربية… التي “تلاشت” بعد الاستقلال 2\2

تابعنا في الجزء الأول (الذي يوجد رابطه في أسفل المقال) أسباب تأسيس المدارس الحرة، والسياقات المتحكمة في عملية تنزيلها لمقاومة السياسة التعليمية الفرنسية، وتطوير “المناهج التربوية” التقليدية.

في هذا الجزء الثاني، نرصد محتويات هذه المدارس التعليمية، والجديد التربوي الذي جاءت به، ومصيرها بعد استقلال المغرب.

محتوى المدارس الحرة 

في مقتطف ينقله الباحث عبد اللطيف المنصوري، يقول فيه إنّ “المدارس الحرة في معظمها لم تكن، في فترة العشرينات، تنم عن محتوى سياسي كبير؛ كما لم تكن تعرف أي تنظيم ممركز. لهذا، لا يمكن أن نتحدث عن “حركة” مدارس حرة مغربية حقيقية في العشرينات. الانبثاق التدريجي لمثل هذه الحركة واحتواؤها لعدة مدارس حرة لم يتم إلا بعد سنة 1930، وخاصة بعد سنة 1944، كجزء لا يتجزأ من نمو الحركة الوطنية المغربية”.

غير أن الباحث في التاريخ والآثار، سفيان حرقي، يحاول العودة بمرايانا إلى حيثيات المنهج الدراسي لهذه المدارس، حيث يعتبر أنّ التعليم في المدارس الحرة، لم يعد حينها مقتصراً على حفظ القرآن والمختصرات فحسب، بل أضيفت إليه مواد أخرى تتصل بالتفسير، وأسس العقيدة الإسلامية، ومبادئ النحو العربي، وقليل من علم الحساب؛ بالإضافة إلى أن بعضها لم يتوان مشرفوها في إدراج مواد حيويّة، من قبيل التاريخ والجغرافيا والمنطق، بل وحتى مبادئ اللغة الفرنسية، وفق ما يفسره لمرايانا.

الباحث يجد أنّ من الأمور التي أتت بها المدارس الحرة أيضا، متجاوزة في ذلك أبجديات “المسايد”، أنها اعتمدت طرقا جديدة في التدريس، أو ما ندعوه اليوم ببيداغوجيات التدريس، من ضمنها أنها اعتمدت عوض القسم الوحيد المختلط الملتف حول “الفقيه”، نظام الأقسام والفصول، حسب مستويات التلاميذ وبرنامجهم الدراسي. وقد تم استخدام كتب ومقررات مهربة من الشرق الأوسط رغم الحظر الفرنسي.

فضلا عن ذلك، يرى حرقي أنّ المدرسة الحرة كانت من ضمن الطرق التي سعت النخبة السلفية، من خلالها، إلى الدفاع عن الهوية الدينية، وذلك عبر إرساء تعليم مغربي ذي طابع إسلامي، يساهم في تكريس الثقافة الإسلامية ومحاربة كل أشكال الاختراق الهوياتي الذي يمكن أن تخلقه البنية التعليمية الفرنسية في نفوس التلاميذ المغاربة.

الباحث الفرنسي الشهير “جورج دراك” المعروف بـ”سبيلمان”، يقدم شهادة معبرة جدا عن التعليم الحر وقتها، بحيث أورد في إحدى مقالاته تصريحا لأحد الأعيان الفاسيين متحدثا عن طبيعة التعليم الذي يرغبه لابنه: “لا يهمني أن يتعلم ابني في الحساب متى يتقاطع القطار القادم من طنجة بسرعة معينة، مع قطار آخر قادم من مراكش بسرعة معينة، إذا كانت المسافة كذا كيلومترا. إن ما أريده هو أن يتكلم لغة عربية سليمة، وأن يعرف كيف يكتب بلغة الضاد، وأن يحفظ القرآن”.

تشير الكثير من المراجع التاريخية أنّ الأسر المغربية النشيطة في عالم العقار، زمن الحماية، قدمت هكتارات كهبة للحركة الوطنية لبناء مدارس حرة، وتم وقف العديد من البنايات والأماكن لتعليم أبناء المغاربة تعليما يكون بإمكانه مواجهةالمناهج التربوية الكولونياليّة. في المدينة القديمة بالدار البيضاء، مثلا، لاتزال ذاكرة العديد من المدارس الحرة، التي تعود إلى عقارات وُهبت للمقاومين السلميين وقتها.

لهذا، عدّ الكثيرون “المدارس الحرة بأنها أم الوطنية المغربية”. ومن الأكيد أن المدارس الحرة اضطلعت بدور مهم في بلورة الشعور الوطني (كما كان يحلو للأستاذ المرحوم جرمان عياش أن يسميه)، وفي نموه وصقله.

غير أن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن المدارس الحرة ارتبطت في بدايتها بالحركة السلفية، التي ساهم روادها في تأسيسها إلى حد كبير. لقد كان الجميع يعتقد أن الاستعمار هو هجوم على الدين والأمة الإسلامية قبل أن يكون هجوما على الوطن.

يعود سفيان حرقي ليوضح لنا أنه: “من ثمة، انبرت الأصوات السلفية للتصدي لذلك عبر قناة المدارس الحرة. لكن مع مرور الوقت وتطور الأوضاع، سرعان ما تغيرت توجهات هذه المدارس، التي ستنتقل من طابعها الديني، أو لنقل السلفي، إلى الطابع الوطني. بحيث أصبحت هذه المؤسسات بمثابة قنوات لتلقين التلاميذ المغاربة شؤون الوطن، قصد بث الروح الوطنية في نفوسهم من خلال مجموعة من الدروس (الأشعار، الجغرافيا، التاريخ..) التي تؤكد على أهمية الوطن والأمة”.

في دروس التاريخ مثلا، يقول المتحدث، جرى التركيز على الفترات الزاهية في تاريخ المغرب، بغية استحضار أمجاد التاريخ المغربي والتأكيد على عراقته وأصالته.

في هذا الباب، يشير بعض الباحثين إلى أن برامج المدارس الحرة لم تخل من بعض “التدجين”، من خلال تقديم صور ملفقة عن التاريخ، تستحضر لحظات الانتصار، وتتحاشى لحظات الانكسار، قصد زرع مشاعر الافتخار والاعتزاز في نفوس التلميذ المغربي. هذه العملية كانت تخدم، إلى حد كبير، الحركة الوطنية المغربية، التي ستجد في المدارس الحرة بؤرة للتعبئة وضمان الاستمرارية، من خلال تكوين وإعداد وطنيي المستقبل من بين صفوف التلاميذ.

ما بعد المدارس الحرة!

يسأل العروي نفسه في كتاب استبانة: هل حققت المدارس الحرة أهدافها؟

ثمّ يجيبُ بأنها فتحت مجالا لتوظيف خريجي القرويين. إذ “حافظ هؤلاء على، وربما رفعوا، مستوى معرفة اللغة العربية. عملوا كذلك على رفع مستوى الوعي الوطني لدى الشباب. ونشروا أفكارا سلفية معادية في نفس الوقت للسلطة الفرنسية وللمخزن الموالي لها، وكذلك لشعوذة أشياخ الزوايا”.

العروي المؤرخ يقول إنه، لولا نشاط المدارس الحرّة، لما ظهر صحفيون مغاربة شرعوا يكتبون في الصحف الوطنية كلما سمحت سلطات الحماية بإصدارها، وعند منعها، في جرائد البلاد العربية الأخرى. لولا نشاطها لما تكون جيل من القادة الذين أطروا مظاهرات 1935 و1937.

بالطبع، يعتبرهم العروي شرذمة فقط، سيما “إذا قارنا وضع المنطقة الجنوبية بالشمالية التي تمتعت ببعض الحرية في مجال التعليم. هذا الجانب الإيجابي مهم، نظرا للظروف القائمة آنذاك بالنسبة للمآل الذي انكشف لنا نحن المتأخرين. بينما هناك جانب سلبي يتجسد في تقوية التقاليد المغربية، تقاليد مغايرة لتقاليد المخزن الموالي للحماية، لكنها تقاليد على كل حال تضخم قيم الماضي على حساب الحاضر المرفوض”.

ثمّ يتحدث العروي عن استمرار المدارس الحرة بعد الحصول على الاستقلال، إذ يقول إنها واصلت عملها. لقد “حافظت الحكومة على الكل، إذ كانت قليلة. ثم أراد البعض تعميم نظامها على المدارس العمومية التي كانت بدورها قد تطورت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا هو مضمون ما سمي بمخطّط التعريب، الذي وقع حوله إجماع سیاسي، لا إجماع اجتماعي، والذي يتعرّض اليوم لنقد لاذع. ومشکل التّعريب لا يزال قائما إلى الآن”.

يجمل العروي بأن الفرنسيين كانوا يدّعون أنهم يعارضون تعدد المدارس الحرة لأنها تنشر أيديولوجيا عروبية عدوانية، ونفس الانتقاد يرفع حقا أو باطلاً ضد المدرسة المعربة منذ الاستقلال.

في النهاية، يعود العروي ليسأل نفسه: التعليم أمّ مشكلات المغرب؟

ثمّ يجيب: كان ولا يزال… وسيبقى كذلك.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *