هشام روزاق، يكتب: أنا حضرت الحلم… يوم بلجيكا في ملعب دار الطيب (الحلقة الثانية) - Marayana - مرايانا
×
×

هشام روزاق، يكتب: أنا حضرت الحلم… يوم بلجيكا في ملعب دار الطيب (الحلقة الثانية)

مالذي فعله بنا المنتخب “يوم بلجيكا”؟
لا أحد، مع كل هذا الوقت الذي مر، يستطيع أن يجازف ببعض جواب.
الذي فعلوه بنا، لم يكن لعبة كرة. لقد لعبوا يومها في حمضنا النووي.
… لقد حولونا في بضع دقائق، من كائنات صغيرة تفرح بالتعادل والهزيمة الصغيرة، إلى كبار ينتصرون، إلى بشر يجيد الفرح…

هشام روزاق
هشام روزاق

… سأظل أحسد الذين يخضعون الكرة ومباريات الكرة للذي يعتبرونه عقلا. الذين يصرون على مناقشة أي شيء وكل شيء. الذين يخضعون كل هذا الجنون والعشق والجمال للكآبة. سأظل أحسد الذين تركوا الكرة والجنون والفرح جانبا، واكتشفوا فساد الفيفا وتواطء قطر ودور “اللوبيات”. اكتشفوا ذلك فجأة، وكأنه يحدث للتو…

في الكرة، لا مكان للعقل.

تعلمت منذ زمن قديم مضى، أن لا مكان للعقل في الكرة. لا مكان للقلب حتى… نحن ندخل المباريات، لاعبين أو جمهورا، بالغريزة فقط، بكل الغرائز الساكنة فينا. ندخلها كي ننتصر، كي لا ننهزم… ندخلها كي ننتقم، كي نتشفى، كي نتعالى على الآخرين، كي نقف في وجه الأقوياء. ندخل الكرة، كي نترك كل ما نكرهه فينا جانبا، وكي نصير قدم لاعب ويد حارس. ندخلها كي نحقق ذلك “الحلول الصوفي” الذي يجعلنا جزءا من الكون، لا قطع أثاث متناثرة تزين وجود الآخرين.

… حل “يوم بلجيكا”، وكان الموعد في بيت كلثوم لخديم والدكتور الطيب السلاوي. وكما أطفال ملوا انتظار الهدية، كان الطيب يكلمني صباح ذلك اليوم، ليسألني عن سبب تأخري. كلمني صباحا. وقت المباراة لازال بعيدا، لكنني فهمت…

الطيب، مثلي، لم يكن يومها يطيق الانتظار، ولم يكن يريد أن يبقى وحده. كان الأرق و”الستريس” يأكلنا شيئا فشيئا. قبل أكثر من 3 ساعات عن الموعد تقريبا، كنا معا، نتحدث في أي شيء… ونلعن كل شيء، ونضحك من أي شيء. كنا أشبه بحالة عصبية نموذجية تصلح لطلبة الطب.

شيئا فشيئا، بدأ بيت الطيب يفقد هويته المعتادة، ويتحول إلى… “ملعب دار الطيب”. أطفال يحملون الرايات ويملؤون الجو أهازيج وأغاني، كبار استغلوا أول فرصة، كي يعودوا أطفالا ويحرروا أجسادهم من لعبة الكبار المقيتة. حل بالمكان المهدي ومريم، محمد أسفار وسامية الحضر، إيمان وأديب، مصطفى وسهام، عبدو ونسرين، وفايزة… وتخلفت سناء العاجي الحنفي، لارتباطات مهنية، ستظل تكرهها إلى… فرح قادم.

كل هذه التفاصيل لم تكن مهمة. الأهم في الحكاية هنا، كمال وجاد.

كمال، ابن الطيب وكلثوم، حارس فئات صغرى في فريق الوداد، وجاد، ابن المهدي ومريم… لاعب “ريكبي” (Rugby). مع كمال وجاد، سأفهم أن فهمي للكرة قديم (وهذا كنت على وعي به) وأن طرق الفرح والاحتفال تغيرت (وهذا كنت أنتظره)… وأن علاقة الناس بالمغرب، لم تعد كما نتخيلها، كما نتوهمها…

لهؤلاء الشباب ارتباط جديد بمغرب جديد لم نستوعبه بعد. لهم علاقة غير التي عرفنا بالراية… وكل شيء، إلى حدود الآن مفهوم، مقبول وحالم، لكن…

حين بدأ عزف النشيد الوطني، أسقط في يدي… هكذا، دون سابق إنذار، وقف كمال وجاد، ونظرا للذي لم يكن قد وقف بعد، وكـأنهما يصدران أمرا للجميع أن… قفوا احتراما لنشيد البلد.

… أنا، القادم من علاقات حب مرتبكة ببلدي، أنا الآتي من مغرب، كان فيه نشيد البلد، رمز نظام، وأغاني الوطن، قصائد مدح للحكام… وجدتني أستسلم لكمال وجاد، وأغني مع بلدي… لأجل بلدي، لأجل المغرب الذي صار اليوم أقرب مما كان.

انطلقت المباراة، ومع أول فرصة للمنتخب، سأكتشف معدن جاد الحقيقي… أطلق صرخة، فهمت معها، أن أهم ما يمكن أن تفعله مع لاعب ” Rugby”، أن تجعله صديقك… أن لا تغضبه قط. منذ هذه اللحظة، صار كمال وجاد، تميمة الفوز والفرح عندي.

مالذي فعله بنا المنتخب “يوم بلجيكا”؟

لا أحد، مع كل هذا الوقت الذي مر، يستطيع أن يجازف ببعض جواب. الذي فعلوه بنا، لم يكن لعبة كرة. لقد لعبوا يومها في حمضنا النووي.

… لقد حولونا في بضع دقائق، من كائنات صغيرة تفرح بالتعادل والهزيمة الصغيرة، إلى كبار ينتصرون، إلى بشر يجيد الفرح…

كنا نعانق بعضنا، دون أن تجد اللغة إلى الأفواه سبيلا. كانت كل اللغات، كما العقل والمنطق والقلب، في حالة تيه. وحدها غريزة الفوز أخرجت أجمل ما فينا.

في الكرة… الانتصارات، كما الخيبات، لا تقف دائما على نفس درجة الجنون، وأن تنتصر على بلجيكا، ليس انتصار كرة… هو انتصار على أشياء كثيرة تستعصي على اللغات.

… هو انتصار على ذلك المغربي “الصغير” الذي صنعوه، والذي أرادوه مرادفا للمواطن في البلد، وعلى ذلك “المغربي المتخلف” الذي أرادوه في إعلام الغرب المتقدم…

هو انتصار على حكايات التعالي خارج المغرب، ويوميات “الحكرة” داخله.

في الأثناء… جعلتني المباراة أكتشف بعض خفايا كثير من أصدقاء…

الطيب، الرجل الهادئ الذي بالكاد تسمع صوته، صار خلال المقابلة، قنبلة “ستريس” ينفجر ويعيد تشكيل جسده. لقد أتى بحركة، تعجز عنها كل قوانين الفيزياء… جالسا على أريكته، ارتقى للسماء دون أن يغادر مكانه. حين أخبرته بالأمر، قال إنه لا يتذكر…

أما محمد أسفار… فسيشهد التاريخ، أنني رأيته في أبهى لحظات القلق. محمد الذي يستحيل أن تجعله “يتعصب”، رأيته يرتعد… رأيته واقفا لأكثر من 20 دقيقة، ينتظر صفارة النهاية.

ربما… لأجل الطيب ومحمد فقط، أستطيع القول إننا حققنا معجزة في قطر.

انتهت المباراة، وكنا بالكاد نحاول استعادة بعض أشلائنا التي تناثرت بين فرح هنا، وغضب هناك… كنا نحاول أن نسترجع أنفاسنا التي تلاعب بها المحمدي والياميق وأمرابط وزياش… حين انتبهت للقضية الأصل..

قلت، وكان قولي الفصل: الماتش الجاي غا نشوفوه هنا، ما سوقيش. الدار اللي ربحنا فيها بلجيكا، غانربحو فيها الآخرين. نحن لا نغير الفريق الذي ينتصر.

كلثوم، تلقفت الفكرة دون كثير تفكير… قالت: وعلاه عندك الشك؟ الماتش الجاي هنا.

صار لنا إذن فريق… وصار لنا ملعب، “ملعب دار الطيب”.

صار الموعد كندا…

ومال هاد كندا زعما غاتخلعنا؟…

 

 

تعليقات

  1. عبدو

    مقال ىائع استطاع ان يخرج من عيني دمعتين و جملة بنت في كثير و هي وتخلفت سناء العاجي الارتباطات مهنية ستظل تكرهها الى فرج اخر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *