كيف تطور مفهوم الفرد: أثر ديكارت 3/4 - Marayana - مرايانا
×
×

كيف تطور مفهوم الفرد: أثر ديكارت 3/4

قبل ديكارت، كان من الصعب علينا أن نتصور فكراً يتولّدُ عن ذاتٍ تتمتعُ بالخطأ. ذلك أن الخطأ كان يجدُ حله جهة الموضوع…
مع ديكارت ستتأسسُ الذاتية، ستُصبحُ الذّات المُريدة سيّدة اللعبة، وهي وحدها المسؤولةُ عن إصلاح نفسها واتِّخاذ القرار في ألاّ تقبل من الأفكار إلاّ ما كان واضحاً مُتميّزا.

سفيان البراق: طالب مجاز في الفلسفة

كان الاحتجاجُ ضدَّ أنواع اللاَّمُساواة الاجتماعية بوصفها تابثة ومُوروثة وليس على أساسِ إنجازٍ فردي، وكان لهوبز دورٌ في غاية الأهميّة في عملِ نقلة نوعية في الفكر الفلسفي عموماً والفلسفة السياسية خصوصاً، وذلك عندما انتقدَ أحد الأفكار المُهمَّة في فلسفةِ أرسطو والتي ظلَّت مُسيطرة على الفكر السياسي والاجتماعي لعُقودٍ طويلة. هذه الفكرة مفادها أنّ الرَّوابط السياسية هي هبةٌ من الطبيعة أو كما سمّاها أرسطو علة نهائية، فالأفراد غير مُتساويين أساساً والمظاهر الأساسيّة للبيئة الاجتماعية ليست خاضعةً للتعديل من قبلهم فهي أمورٌ تُقرِّرُها الطبيعة.

بروز الذات الإنسانية التي ستُشكّلُ لنا الفرد في المجتمع كانت في اللحظة الديكارتية، وقبلها كان الذّات مجرد جسدٍ غير قادرٍ على توليد التفكير، أي تفكيراً فلسفياً خالصاً.

انتقد هوبز هذا الافتراض الأرسطي، وعلى العكس من ذلك خطَّ هوبز مساراً جديداً في عالَم السياسة والفلسفة، وكان له الأثر الكبير في تشكُّل الفكر السياسي والاجتماعي على أُسُسٍ فرديّة اعتماداً على أنّ الروابِط السياسية هي نِتاجُ براعةِ الأفراد ومن ثَمَّ يُمكنُ تعديلها من خلال جهود معرفة واختراع الأفراد[1].

إقرأ أيضا: علي اليوسفي: الجذور التاريخية للحجاب

إلى جانب هوبز في نطاق العقد الاجتماعي، نجد جون جاك روسو الّذي يُعطي الأولويّة لتشريعِ النّاس لقوانينهم بنفسهم، فوضعُ القوانين هي مُهمّة يحملها الشَّعب على عاتقه، وكلُّ قانون لا يُقرُّ به الشّعب يكون قانوناً لاغياً دون مناقشة.

الفردُ يُشرِّعُ القوانين الّتي تأتي من إرادتهِ الحُرَّة، ثم يُطيعُ هذا الإرادة، وهذا ما يجعلهُ حُرّاً. يقول روسو:” تخلِّي المرء عن حُريَّته هو تخلٍّ عن صفته كإنسان. إنّ مثل هذا التخلي يتنافرُ مع طبيعة الإنسان لأنّ تجريدَ إرادتهِ من كلِّ حريّة إنّما هو تجريدٌ لأفعاله من كلِّ صفةٍ أخلاقيّة”.

إذن، فتخلِّي الأفراد عن حُريَّاتهم بالنِّسبة لروسو هو فعلٌ لا معقول ولا يُمكنُ أنْ يتصوَّرهُ العقل، والّذي يفعلهُ لا يَمتلكُ الحِس السليم، وإذا ما تخلّى شعبٌ بأكمله عن حُريّته لشخصٍ واحد يكونُ هذا الشعب شعباً يتكوّنُ من مجانين وهنا يخيبُ الحق[2].

بعد كلٍّ من توماس هوبز وجون جاك روسو، لابدّ من الوقوف عند تصور جون لوك للفرد. يُركِّزُ لوك على أنّ هناك حقوقاً أساسية للفرد، سمّاها الحقوق الطبيعية، وهي حقُّ الحريّة، وحقُّ الملكية، والحقُّ في الاعتقاد، هي حقوقٌ للفرد ولا يحقُّ للسلطة أنْ تُجرِّدهُ إيّاها أو تعتدي عليها، فالفردُ هو فقط من يمتلِكُ هذه الحُقوق لذلك يُعدُّ الفرد أهم من أي جماعة اجتماعية، لأنّ وظيفة المجتمع الأساسيّة هي حمايةُ الفرد من أيّ توغلٍ على حُقوقه الطبيعية، فالأفرادُ مُتساوون في الحقوق. أراد لوك أنْ يُوازِنَ بين الإيمان من جهة، والفكر البُرجوازي الصاعد من جهة، والمُتمثِّل في اعتمادِ العقل.

أقرّ فيلسوف العقلانيّة ديكارت بالفرد انطلاقاً من الكوجيطو الشَّهير، وأقرَّ بالذّات المُفكِّرة. هذه الذّات هي امتدادٌ في الطبيعة، وإحساس عن طريق العقل، وحدسٌ (الوجدان) وتجربة.

قبل ديكارت، كان من الصعب علينا أن نتصور فكراً يتولّدُ عن ذاتٍ تتمتعُ بالخطأ. ذلك أن الخطأ كان يجدُ حله جهة الموضوع… مع ديكارت ستتأسسُ الذاتية، ستُصبحُ الذّات المُريدة سيّدة اللعبة، وهي وحدها المسؤولةُ عن إصلاح نفسها واتِّخاذ القرار في ألاّ تقبل من الأفكار إلاّ ما كان واضحاً مُتميّزاً[3].

هايدغر: ابتدأت الحداثة في اللّحظة الّتي تحرّر فيها الإنسان ليعود إلى ذاته من حيث هو ذلك الكائن الذي يتمثَّلُ نفسه بردِّه كلّ الأشياء نحو ذاته كحكمٍ أعلى.

نفهم من هنا أن بروز الذات الإنسانية التي ستُشكّلُ لنا الفرد في المجتمع كانت في اللحظة الديكارتية، وقبلها كان الذّات مجرد جسدٍ غير قادرٍ على توليد التفكير، أي تفكيراً فلسفياً خالصاً.

إقرأ أيضا: فرج فودة… رائد الجيل الثاني للفكر التنويري في مصر

يقول مارتن هايدغر:”لقد ابتدأت الحداثة في اللّحظة الّتي تحرّر فيها الإنسان ليعود إلى ذاته من حيث هو ذلك الكائن الذي يتمثَّلُ نفسه بردِّه كلّ الأشياء نحو ذاته كحكمٍ أعلى”.

قبل أنْ أتطرَّق لهيغل، من الواجب عليّ إعطاء فكرة عن تصور كانط للفرد. يرى إيمانويل كانط أنّ الفرد لا وجودَ له لأنّه ينصهرُ ضمن النَّوع البشري، هذه الفكرة الّتي طرحها كانط هي نِتاجٌ لتصوُّره الكوني لمفهوم المواطن العالمي والكوني.

تناول هيغل مُشكلة الفرديّة والجماعية من خلال فلسفةٍ مثاليّة موضوعية قائمة على أولويّة الفكر على المادّة.

يمكنُ اعتبار فلسفة هيغل على أنّها بدايةُ تفكيرٍ جديد ومُغاير لفلسفة القرن الثامن عشر، وفكرتهُ عن الحُريّة والفرد وعلاقته بالكُل والتي تتمثَّلُ بالدولة. الحريّة عند هيغل تتعالى عن الفرد وحياته الخاصّة، فالحريّة بالنِّسبة إلى الفرد هي الارتفاعُ إلى الإرادة العامّة والاشتراك في هذا التنظيم الموضوعي الّذي يتجاوزُ الفرد، فالدولة في نظر هيغل تُمثِّلُ العقل على الأرض.

يُؤكٍّدُ هيغل على وحدة المُجتمع المُمثلةِ في الدولة كأرقى تجسيدٍ للفكر المُطلق، وألغى حرية الأفراد فيها باعتبار الدولة مصدر الحُريّات والقوانين الخالق لها. النِّظام الهيغيلي يُهدِّدُ ما يُميزُ الإنسان كما يُهدِّدُ فرديّتهُ[4].

[1] عامر ناصر شطارة، الفردانية في الفلسفة الحديثة، دراسات، العلوم الإنسانيّة والاجتماعية، المجلّد 41، ملحق 1، 2014.
[2] مقال: الحُريّة لدى جون جاك روسو، عزّة علامة، الحوار المتمدن.
[3] عبد السلام بنعبد العالي، أسس الفكر الفلسفي المُعاصر، ص 108.
[4]  والتر ستيس، فلسفة الرُّوح عند هيغل، ص 574.

لقراءة الجزء الأول: كيف تطوّر مفهوم الفرد؟ 1/4

لقراءة الجزء الثاني: كيف تطوّر مفهوم الفرد؟ من أرسطو إلى فلاسفة الأنوار 2/4

لقراءة الجزء الرابع: كيف تطور مفهوم الفرد؟ أسئلة فوكو 4/4

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *