“الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: “فتح مصر” 7/5 - Marayana - مرايانا
×
×

“الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: “فتح مصر” 7/5

كانت مصر البيزنطية عشية “الفتح العربي” تخضع لحكم سيروس (المقوقس أو سيرس بحسب التسمية العربية)، الذي عينه هيراكليوس (هرقل) عام 631م في منصبي حاكم مصر وبطريرك الإسكندرية الملكي-الخلقيدوني.

بعدما تابعنا في الجزء الرابع لحظة التحول الكبرى في تاريخ المشرق بسقوط القسطنيطينية، وبداية السيادة العربية-الإسلامية على المنطقة، في الجزء الخامس، نواصل هذا الملف الذي نستلهمه من كتاب الباحث اللبناني حسام عيتاني، “الفتوحات العربية في روايات المغلوبين”، ونتابع فيه الرواية الأخرى لـ”فتح مصر”.

كان التوسع صوب مصر مطروحا أمام القادة العرب قبل أن يكتمل “فتح” الشام… كانت المسألة، مسألة وقت وحسب.

ورغم ما كانت تمثله مصر للإمبراطورية البيزنطية، إذ كانت وحدها، كولاية، تضخ أكثر من ثلاثين بالمائة من إجمالي العائد الضريبي، إلا أن ذلك لم يشفع بالدفاع عنها… من يعجز عن استرداد سوريا وفلسطين، حتما يعجز عن الدفاع على باقي أراضيه!

قصة يوحنا لـ”فتح مصر” تتنافى مع الرواية العربية… ما يهمنا فيها؛ تصوير المزاج القبطي غداة “الفتح الإسلامي”، الذي لا يبدو متفقا مع الأجواء التي ترسمها المصادر العربية عن ترحيب المصريين بـ”الفاتحين” العرب.

الواقع أن القوات البيزنطية هناك كانت غير كافية أمام عدو متحفز دينيا ومتملك للمبادرة، تحت قيادة “داهية العرب” عمرو بن العاص، الذي كان خلفه عمر بن الخطاب.

كانت مصر البيزنطية عشية “الفتح العربي” تخضع لحكم سيروس (المقوقس أو سيرس بحسب التسمية العربية)، الذي عينه هيراكليوس (هرقل) عام 631م في منصبي حاكم مصر وبطريرك الإسكندرية الملكي-الخلقيدوني.

شكل وصول سيروس إلى مصر في الواقع بداية حملة اضطهاد واسعة ضد الأقباط لرفض هؤلاء مقررات المجمع الخلقيدوني، ما دفع بطريرك الأقباط الأنبا بنيامين إلى الهروب والتواري عن الأنظار.

اقرأ أيضا: الوجه الآخر لصلاح الدين الأيوبي… كما رسمته المصادر الإسلامية السنية 1/5

وإذا كان المؤرخ ميخائيل السرياني (القرن 11م) يقول إن بنيامين اتجه إلى الطائيين (العرب) ووعدهم بتسليم الإسكندرية إذا عملوا على طرد سيروس وتسليمه الكنائس، فإن هذه الرواية تبدو متشابهة مع السرد العربي لأحداث “الفتح”، من ناحية وجود شخصية قبطية رئيسة أدت دورا مهما في تسليم مصر إلى العرب.

بيد أن هذا السرد يتعارض بشدة مع التاريخ شبه الرسمي للكنيسة القبطية، الذي وضعه ساويروس الأشمونين بعنوان “تاريخ البطاركة”، وصَوّر “الفتح العربي” كحدث مستقل عن إرادة المصريين.

هذه الحوليات تتحدث عن ذبح الإسماعليين (العرب) و”بلا رحمة”، للقائد البيزنطي ثيودوسيوس وجنوده وكل الأهالي بعيد دخولهم إلى مصر، بل وكلما توغلوا أكثر، تصاعدت المجازر.

هذه المخطوطة تقول ما مفاده إن هرقل رأى مناما تغلبه فيه أمة مختونة. ظن هرقل أنهم اليهود فأمر بتعميدهم. ثم، بعد أيام يسيرة، ثار رجل من العرب في مكة اسمه محمد، رد عبّاد الأوثان إلى معرفة الله وأن يقولوا… إن محمدا رسوله.

ساويروس يمضي في سرده للأحداث قائلا: “فلما تمت عشر سنين من مملكة هرقل والمقوقس وهو يطلب بنيامين البطرك وهو هارب… أنفذ ملك المسلمين (عمر بن الخطاب) سرية مع أمير من أصحابه يسمى عمرو بن العاص… فنزل العسكر الإسلامي إلى مصر بقوة عظيمة… وكان الأمير عمرو قد هدم الحصن وأحرق المراكب بالنار وأذل الروم وملك بعض البلاد…”.

اقرأ أيضا: حركة الحشاشين…أخطر حركة ثورية عرفها التاريخ الإسلامي؟ 4/1

يتحدث ساويروس أيضا عن الأمان الذي منحه المسلمون للمغلوبين شريطة دفع الخراج، ثم يقول إن عَمراً بن العاص، ملك مصر ثلاث سنين قبل أن يملك الإسكندرية ويهدم سورها  ويحرق بِيّعا كثيرة بها.

الذي يهمنا هنا، أن ساويروس يقول إن رجلا اسمه سانتونيوس الدوكس، كان موظفا بيزنطيا تعاون مع عمرو، هو الذي أخبر الأخير بهروب البطريرك، فكتب عمرو إلى عمال البطريرك في مصر يخبرهم أن بإمكانه أن يحضر آمنا مطمئنا ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته.

حينها، تروي المخطوطة، عاد بنيامين إلى الإسكندرية بفرح عظيم، بعد غيبة 13 عاما، عشرة أعوام في عهد هرقل وثلاثة في عهد المسلمين، فـ”لما ظهر، فرح الشعب وكل المدينة، فأخذ منه الأمير عمرو الأمان”.

رغم ما كانت تمثله مصر للإمبراطورية البيزنطية، إذ كانت وحدها، كولاية، تضخ أكثر من ثلاثين بالمائة من إجمالي العائد الضريبي، إلا أن ذلك لم يشفع بالدفاع عنها… من يعجز عن استرداد سوريا وفلسطين، حتما يعجز عن الدفاع على باقي أراضيه!

هذه المخطوطة بالتأكيد تهمل مجريات المعارك بسبب اهتمامها بتوثيق الأحداث التي تعني الكنيسة القبطية، لكن الذي يهمنا فيها روايتها المختلفة لـ”فتح مصر”.

الواقع أن حوليات يوحنا من نيقوس (حاليا قرية أبشاي في المنوفية، مصر) قد تكون الأكثر صراحة في تنديدها بكل ما جلبه “الفتح العربي” لمصر وفي سردها للمصائب التي أنزلها العرب بالأقباط.

هذه الحوليات تتحدث عن ذبح الإسماعليين (العرب) و”بلا رحمة”، للقائد البيزنطي ثيودوسيوس وجنوده وكل الأهالي بعيد دخولهم إلى مصر، بل وكلما توغلوا أكثر، تصاعدت المجازر.

اقرأ أيضا: “نصوص متوحشة”: هكذا وطّد ابن تيمية خطاب التكفير في التراث الإسلامي 4/4

تتحدث أيضا عن تجريد عمرو بن العاص للقادة الرومان من ممتلكاتهم بعد اعتقالهم ومضاعفة الضرائب على الفلاحين وأمرهم بتزويد خيوله بالعلف.

يوحنا يضيف أنّ عَمراً ارتكب ما لا يحصى من أعمال العنف، حتى دب الذعر بين سكان مصر الذين هربوا صوب الإسكندرية تاركين أموالهم وقطعانهم، فيما استولى على كل ممتلكاتهم بمساعدة من اتبعوا إيمانه من المسيحيين.

أسرف الباحثون الغربيون في الحديث عن إحراق مكتبة الإسكندرية كدليل على همجية “الفتوحات العربية”. لكن بعد تقليب القصة على وجوهها، تبين وفق بعض المستشرقين أنّها خيالية.

المسلمون تابعوا ذلك في طريقهم إلى الاسكندرية، تضيف الحوليات. ثم، لما لمسوا ضعف الرومان وعدائية الشعب لهراكليوس، بسبب تعيينه المقوقس، أصبحوا أكثر جرأة وأقوى في الحرب.

أما بعد دخول عمرو إلى الإسكندرية، فلم يرتكب جنوده أعمال سلب ضد الكنائس، لكنه زاد الضرائب زيادة هائلة “حتى باع المصريون أولادهم لدفع الضريبة”.

ما من داع هنا إلى القول إن قصة يوحنا لـ”فتح مصر” تتنافى مع الرواية العربية… ما يهمنا فيها؛ تصوير المزاج القبطي غداة “الفتح الإسلامي”، الذي لا يبدو متفقا مع الأجواء التي ترسمها المصادر العربية عن ترحيب المصريين بـ”الفاتحين” العرب.

اقرأ أيضا: الإخوان المسلمون… التأسيس وحلم الخلافة 1/3

على الهامش:

أسرف الباحثون الغربيون في الحديث عن إحراق مكتبة الإسكندرية كدليل على همجية “الفتوحات العربية”.

هذه القصة يرويها أبو الفرج غريغوريوس ابن العبري، ويقول فيها إن رجلا اسمه يوحنا فيليبونوس، طلب كتب الحكمة التي في خزان ملوكية، فقال له ابن العاص: “لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين”. ثم كتب إلى عُمر، فرد عليه هذا: “وأما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها”.

وكذلك فعل، تروي القصة.

بعد دخول عمرو إلى الإسكندرية، لم يرتكب جنوده أعمال سلب ضد الكنائس، لكنه زاد الضرائب زيادة هائلة “حتى باع المصريون أولادهم لدفع الضريبة”.

بعد تقليب القصة على وجوهها، يخلص المستشرق الإنجليزي ألفريد بتلر إلى عدة استنتاجات تنفي صحتها:

ظهرت القصة أول ما ظهرت بعد أكثر من 500 عام من الحدث الذي تتحدث عنه؛ تحليل تفاصيل القصة يقود إلى تبيان عبثيتها. الشخصية الرئيسية فيها (يوحنا فيليبونوس) كان قد مات قبل زمن طويل من اجتياح العرب لمصر. اثنتان من كبريات المكتبات التي يمكن أن تكون القصة تشير إليهما كانتا قد اختفتا من الوجود قبل مئات الأعوام من “الفتح العربي”. أدبيات القرون الخامس والسادس والسابع لم تتضمن أي ذكر لهذه المكتبة.

اقرأ أيضا: الترجمة إلى العربية: حين أدرك العرب أن العلم وحده المدخل إلى حياة الحضارة 4/1

ثم إنه، في حال وجدت مكتبة كهذه عندما سلم المقوقس الإسكندرية، من المؤكد أن الكتب كانت لتنقل، وفقا لمادة في معاهدة الاستسلام، تسمح بنقل كل المواد القيمة طوال أحد عشر شهرا من الهدنة التي تفصل بين توقيع المعاهدة والدخول الفعلي للعرب إلى المدينة.

الخلاصة حسب بتلر، أن القصة لا تعدو أن تكون خيالية. تفنيد لا يختلف عن ذاك الذي ساقه المؤرخ الإنجليزي إدوارد غيبون للقصة، مبرئا عمرو بن العاص من تلك التهمة.

في الجزء السادس نُتابع رواية المغلوبين لـ”فتح إيران”.

لقراءة الجزء الأول: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: نحو إعادة تقييم التاريخ العربي-الإسلامي 7/1

لقراءة الجزء الثاني: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: هكذا كان ينظر المغلوبون إلى السراسنة (العرب) قبل “الفتوحات”! 7/2

لقراءة الجزء الثالث: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: بين التفسيرات اللاهوتية والواقعية… لماذا حدثت “الفتوحات” في نظر المغلوبين؟ 7/3

لقراءة الجزء الرابع: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: سقوط القسطنطينية وبداية سيادة العرب المسلمين خارج شبه الجزيرة… 7/4

لقراءة الجزء السادس: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: “فتح إيران” 7/6

لقراءة الجزء السابع والأخير: “الفتوحات” العربية في روايات المغلوبين: مؤامرة يهودية؟ 7/7

تعليقات

  1. محمد علي عيتاني

    أستاذ كريم شكرا لك لبحث الموضوع فلقد اصبح كل ما هو تراثيا في الاسلام مقدس الللغة الصحابة الفقهاء وحتى المفسرين وكل من وجد بذلك العصر
    أستاذ كريم هنا اود ان أقول ان الفتوحات لها اكثر من دلالة فممكن ان تكون احد الهجرات حين تضيق الصحراء مثلما حصل في التاريخ ما قبل المسيح او فائض القوة واهم من ذلك نظام جديد وفكر جديد وكما تعلم الامراطورريتان الفارسية والبيزنطية كان نظامهما إقطاعي والعرب لم يعرفوا الإقطاع وكذلك أسباب أخرى
    هنا اود ان الفت نظركم لكتاب اخر يتكلم عن نفس الموضوع تجده على الإنترنت واسمه

    الرواية الشريانية للفتوحات الاسلامية للكاتب تيسير خلف صادر عن دار الفكر الجديد

    اخيرا اعذر أخطائي لعدم قدرتي على مراجعة ما كتبت كون الخط لا يظهر في مكان التعليق
    شكرا
    محمد علي عيتاني لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *