بورغواطة أمّ الغُموض… هل فعلاً كانوا يصلون عشراً ولا يصومون رمضان؟ 2/2 - Marayana - مرايانا
×
×

بورغواطة أمّ الغُموض… هل فعلاً كانوا يصلون عشراً ولا يصومون رمضان؟ 2/2

كان صالح ابن طريف، مؤسس دولة بورغواطة، ينشر دعوته لمذهبه، اعتماداً على مضمون الآية القائلة: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ”، وذلك على اعتبار أنه، لو كان محمد نبيا للعرب حصراً، فصالح بالموازاة نبي “للبربر”. وهذه المسلمة فعلت فعلتها في نفوس الأمازيغ داخل دولته، فاقتنعوا بدعوته واعتنقوا مذهبه، حتى أنه ادعى كونه المهدي المنتظر…

رأينا في الجزء الأول من هذا الملف، كيف تشكلت إمارة بورغواطة وكيف ازدهرت.

في هذا الجزء، نقوم باستقراء الجانب العقدي لبني صالح، نظراً لكونه النطاق الأكثر إثارة للجدل في الملف.

مبدئياً، عند الحديث عن بورغواطة، تطفو المسألة الدينية بسرعة إلى النّقاش، لأنها ظلّت أمرا محيراً للدّارسين على مرّ التاريخ، ولغزاً عجزوا عن فك شفراته إلى اليوم.

أجل. وُصفوا بالهراطقة، والمارقين من الدين، والمحرّفين للعقيدة الإسلامية، والعابثين بالشريعة المحمدية والسنة النبوية… وبأنهم أحد بقايا المجوسية واليهودية في ذلك الوقت، وأنّ ممارساتهم للدين تلتقي والطّقوس الوثنية التي كانت معروفة عند “البربر” قبل “الفتح” الإسلامي

لكن هناك من دافع عن تديّنهم، معتبرا ذلك هروباً من التنميط الذي ساد في المغرب الأقصى اتباعاً للمذهب المالكي، على غرار محمد الطالبي الذي قال إن تدينهم يحمل نزعة أيديولوجية “تؤسس لفعل الانعتاق من أسر التبعية المذهبية، وتؤطر لاستراتيجية التحرر الوطني”، بحثاً عن تصفية التأثر العربي.

في كمّ من الغموض في العقيدة البورغواطية، الذي قد يكون حبلاً بـ”المغالطات”، يمكن عدّ رأي محمود إسماعيل أقل تطرفا في حقّ البورغواطيين، إذ اعتبر أن تدين بني صالح ينهلُ من مذهب الصفرية المتشدد والورع، الذي يصوم رمضان، ويضيف رجب أيضاً تقربا إلى الله، وليس معناه أنهم يصومون رجب عوض رمضان.

قال ابن خلدون عن صالح بن طريف، في كتابه “العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”: “ثم انسلخ من آيات الله، وانتحل دعوى النبوّة، وشرّع لهم الديانة التي كانوا عليها من بعده، وهي معروفة في كتب المؤرّخين. وادعى أنه نزل عليه قرآن كان يتلو عليهم سوراً منه، يسمي منها سورة الديك وسورة الجمل وسورة الفيل وسورة آدم وسورة نوح وكثير من الأنبياء، وسورة هاروت وماروت وإبليس، وسورة غرائب الدنيا، وفيها العلم العظيم بزعمهم”.

كان صالح ابن طريف ينشر دعوته لمذهبه، اعتماداً على مضمون الآية القائلة: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ”، وذلك على اعتبار أنه، لو كان محمد نبيا للعرب حصراً، فصالح بالموازاة نبي “للبربر”. وهذه المسلمة فعلت فعلتها في نفوس الأمازيغ داخل دولته، فاقتنعوا بدعوته واعتنقوا مذهبه، حتى أنه ادعى كونه المهدي المنتظر…

هناك أيضاً من الدارسين، ومنهم عبد الله العروي، من اعتبر أن التشيّع يمكن عده بمثابة المرجعية العقدية لصالح وأبنائه، سيما في عهد يونس بن إلياس بن صالح (271-227 هـ/ 884-842م)، الذي يقال إنه الداعية الحقيقي للدّيانة البورغواطية بصِفة مُباشرة.

من ناحية أخرى، ثمة من يرى بأنها عقيدة إسلامية صرفة، على شاكلة مذهب الخوارج. لكن، تم تطعيمها ببعض العقائد الشيعية، من قبيل الرجعة والمهدي المنتظر.

البورغواطيون كانوا يريدون ضمان استقلال كلي لتامسنا عن أي تأثير خارجي مباشر، لا من حيث الحكم ولا من حيثُ العقيدة، فتصدّوا بذلك لكلّ تهديد محذّق بكلّ قوة وحزم، إذ كانوا أولي بأس شديد كما تنقل عنهم كتب التاريخ.

يعتبر سعد زغلول بأنه لا يمكن اعتبار بعض المراجع السنية أو الشيعية، التي عالجت المسألة البورغواطية، مرجعاً كفيلاً بكشف حقيقة تدين دولة بني صالح، ذلك أن المذهب الصفري، الذي اعتنقه ملوك بورغواطة، كان محط عداء من طرف أهل السنة والجَماعة أو الشيعة في شخص الفاطميين، بما فِيهم مؤرّخيهم وفُقهائهم.

لكن هذا لا يمنع أن نقدم بعضاً من ملامح “الديانة”، التي تنسب إلى بورغواطة، سيما بخصوص الصلاة والصوم والحج.

مسألة الصلاة

البورغواطیون لم یكونوا یستعملون الآذان. وفي ذلك يقول ابن عذارى: “ولیس عندهم آذان ولا إقامة، وإنما هم یكتفون في معرفة أوقات الصلاة بصراخ الدیكة”.

عدد صلواتهم كان یصل إلى عشرة، خمس صلوات في الیوم وخمس في اللیل، وبعض صلاتهم دون سجود، وبعضها على كیفیة صلاة المسلمین. وهم یسجدون ثلاث سجدات متصلات، ویرفعون وجوههم وأیدیهم من الأرض مقدار نصف شبر، ویقرؤون نصف قرآنهم في وقوفهم، ونصفها في ركوعهم، ویقولون في تسلیمهم بكلامهم “الله فوقنا”. [1]

إسقاط الحج یرجع أولاً إلى عدم الإیمان بمكة وقدسیتها، بالإضافة إلى عدم معرفة هذه الشعیرة قبل دخول الإسلام إلى بلاد الأمازیغ عكس ما كان متعارفا علیه في بلاد العرب، وهذا ما أدى إلى التخلي علیها في هذه الدیانة”.

كما اشترط البرغواطیون في وضوئهم ترتیبا مختلفا؛ غسل السرة والخاصرتین، ثم الاستنجاء، ثم المضمضة وغسل الوجه ومسح العنق والقفاء وغسل الذراعین من المنكبین، ومسح الرأس ثلاث مرات ومسح الأذنین، كذلك غسل الرجلین من الركبتین.

كما عرف عنهم أنهم “لا يغتسلون من جنابة إلا من حرام”.

مسألة الصوم

الروايات المتوفرة تقول إن الصوم عند البورغواطیون يخالف الدیانة الإسلامیة تماما، فقد نقلوا صوم رمضان إلى رجب، ویظهر ذلك في قول البكري: “وصوم رجب وأكل شهر رمضان”.

الأمر هنا مرتبط بتقدیس شهر رجب عند أغلب الشعوب القدیمة، لأنّه في المخيال الإسلامي، شهر وقعت فیه “المعجزات” الكثیرة في عهد نوح[2].

من جهة أخرى، يقال إن صوم رجب راجع إلى أهميته الدينية، إذ يوجد حديث ينسب للنبي، ينقله ابن الجوزي، جاء فيه: “رجب شهر الله وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، قیل: یا رسول الله ما معنى قولك رجب شهر الله؟ قال: لأنه مخصوص بالمغفرة، وفیه تحقن الدماء، وفیه تاب الله على أنبیائه، وفیه أنقذ أولیاءه من ید أعدائه، ومن صامه استوجب على الله ثلاثة أشیاء: مغفرة لجمیع ما سلف من ذنوبه، إذا كان عند عصمة فیما بقي من عمره، وأمانا من العطش یوم العرض الأكبر”. [3]

عدد صلوات أهل بورغواطة كان یصل إلى عشرة، خمس صلوات في الیوم وخمس في اللیل، وبعض صلاتهم دون سجود، وبعضها على كیفیة صلاة المسلمین.

كان يوم الجمعة عند البرغواطیون مقدّسا، فأمر صالح بصیامه، وذلك استنادا لما أورده البكري “وصیام یوم من كل جمعة فرض من فروضهم ویصوم الجمعة الأخرى التي تلیه أبداً”.

لكن… في كلّ هذا الكمّ من الغموض في العقيدة البورغواطية، الذي قد يكون حبلاً بـ”المغالطات”، يمكن عدّ رأي محمود إسماعيل أقل تطرفا في حقّ البورغواطيين، إذ اعتبر أن تدين بني صالح ينهلُ من مذهب الصفرية المتشدد والورع، الذي يصوم رمضان، ويضيف رجب أيضاً تقربا إلى الله، وليس معناه أنهم يصومون رجب عوض رمضان.

مسألة الحج

حسب الروايات كذلك، فإن هذه “الفریضة الإسلامیة” تمّ إسقاطها لعدم الإیمان بمكة وقدسيتها، فیقول ابن خلدون: “ورحل یونس إلى المشرق وحج ولم یحج أحد من أهل بیته قبله ولا بعده”.

وتساءل بعض الباحثين، هل ذهب إلى الحج أم فقط إلى المشرق لطلب العلم، والاستزادة من تجارب المذهب الصفري هناك.

مع ذلك، أرجع إبراهیم القادري إسقاط فريضة الحج إلى ثقل المغارم التي أصبحت توظف على الحجاج الذین یمرون بالمهدیة. لكن هذا السبب الاقتصادي، هناك من اعتبره “عاجزاً بمفرده عن تفسیر التخلي عن هذه الشعیرة، وهو یندرج ضمن قول بالفواعل المادیة في تفسیر التاریخ بمختلف أشكاله وتمظهراته، بما فیه تاریخ الظواهر الدینیة”.[4]

كما تتماهى سردية أخرى مع كون إسقاط الحج “یرجع أولاً إلى عدم الإیمان بمكة وقدسیتها، بالإضافة إلى عدم معرفة هذه الشعیرة قبل دخول الإسلام إلى بلاد الأمازیغ عكس ما كان متعارفا علیه في بلاد العرب، وهذا ما أدى إلى التخلي علیها في هذه الدیانة”.[5]

لكن، ينبغي ألا ننسى أن رجب محمد عبد الحليم قدم في كتابه “دولة بني صالح في تامسنا”، جملة من البراهين الموضوعية التي تثبت “كذب” الروايات المنسوبة إلى ديانة البرغواطيين المزعومة.

لعل من أهم هذه البراهين أن كثيراً من المؤرخين الذين عاصروا “دولة بني صالح لم يذكروا أي شيء عن ديانة ملوكها الغريبة، ومن هؤلاء كل من ابن عبد الحكم والبلاذري واليعقوبي”. [6]

ناهيك عن الجغرافيين والرحالة، الذين ذهبوا لاكتشاف المنطقة والوقوف على طباع أهلها ومذاهبهم، على غرار ابن خرداذبة والاصطرخي والمقدسي والإدريسي، والذين لم يأتوا إطلاقا على ذكر تلك الممارسات الشركية التي نُسبت لصالح بن طريف وخلفائه. [7]

بخصوص قضية التشدد والزهد، وترك الدنيا ومتاعها، كما عرفت عن فرق الخوارج، فقد التجأت إليه إمارة بورغواطة، فهي مثلاً في العقوبات، أمرت بقتل السارق ونفي الكاذب…

أيضاً، هناك من الدارسين من ذهب إلى أنّ محاولة ترجمة القرآن للغة الأمازيغية، راجع إلى محتوى أيديولوجي يناهض التعريب، للحفاظ على الثقافة المحلية لدولة بورغواطة.

في النهاية، يبدو أن بني صالح كانوا يريدون ضمان استقلال كلي لتامسنا عن أي تأثير خارجي مباشر، لا من حيث الحكم ولا من حيثُ العقيدة، فتصدّوا بذلك لكلّ تهديد محذّق بكلّ قوة وحزم، إذ كانوا أولي بأس شديد كما تنقل عنهم كتب التاريخ.

القراءات الأيديولوجية للتاريخ ضيّعت عن الأجيال الحالية الكثير من الفرص للغوص في ثنايا بورغواطة بشكل مقنع وتاريخي خالص، بعيد عن التجاذبات والعداءات… لكنّ الذي لم يغيبه التاريخ، أن بورغواطة كشفت عن كيان سياسي معارض، يحبّ الحرية والاستقلال بشكل راسخ، ذلك أن بني صالح لم يكونوا زعماء قبائل وكفى، بل كانوا ملوكاً وتوارثوا الحكم والسلطان في دولتهم، وأدى بهم حبهم في الاستقلال إلى صد الهجمات السياسية باسم الدين، فهزموا المرابطين مرة والموحدين مرات… لكن، قُضي عليهم في آخر المطاف!

الهوامش:

[1] سمراء جرمي، برغواطة بين السياسة والدين، 125هـ – 743م/ 455 هـ – 1063م.

المرجع نفسه.. [2]

[3] نفسه.

[4] نفسه.

[5] نفسه.

[6] محمد يسري، دولة برغواطة في المغرب… هراطقة كفار أم ثوار يبحثون عن العدالة.

[7] المرجع نفسه.

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *