حسن الحو: بين الشريعة والتشريع - Marayana - مرايانا
×
×

حسن الحو: بين الشريعة والتشريع

مدار الأحكام والسنن على ألف حديث نبوي، وقد حاول ابن حجر العسقلاني استفراغ الوسع في جمع كل أحاديث الأحكام في كتابه “بلوغ المرام”، فلم تتجاوز 1570 حديثا، فيها الصحيح والضعيف.

وعلى فرض اعتبار كل آيات القرآن أحكاما شرعية، فلن تتجاوز الاحكام المستنبطة مجموع آيات القرآن 6236 آية. ولعل سائلا يسأل: كيف يمكن أن تشمل الأحكام الشرعية المحدودة والمنتهية، الواقعَ المنساب والمتغير؟! وكيف سنعتبر الأحكام المستنبطة أحكاما شرعية، فننسبها للشريعة والوحي قد انقطع بوفاة صاحب الرسالة؟! وكيف سنتجاوز أحكاما ظرفية شرعت لزمانها وفق اشتراطات وسياقات معينة؟!

حسن الحو
حسن الحو

لا يمر يوم دون أن تسمع أو تقرأ لمن يدعو إلى تطبيق الشريعة وفرض أحكامها، معللا دعواه أن تطبيق أحكام الشريعة لازم من لوازم التوحيد، وسبب لمرضاة الله، وعِلة لحلول النعم، وأن الشريعة ليست كما يدعي المتحاملون مجرد حدود جنائية، بل هي منظومة متكاملة، وقواعد عامة للحكامة، وقيم عالمية للعدل، ومقاصد كبرى تشمل كل حياة المسلم فلا تدعه في حاجة لغيرها من التشريعات الوضعية.

كلام إنشائي جميل تطرب له أذن من لا يريدون سماع صوتٍ غير صوت أناهم المتضخمة، ودعوى فضفاضة، عند النظر في تفاصيلها ومحاولة مطابقتها مع واقع الحال، تخيب كل الظنون والأحلام الورديات. فما الشريعة التي نريد تطبيقها؟ وكيف نستنبط أحكامها؟ ومَنِ المخولون شرعا لاستنباط الأحكام؟ وهل هناك شريعة مُنزَّلة شاملة لكل تصرفات البشر الحاضرة والمستقبَلة؟

الشريعة الاسلامية هي خطاب الله للمكلفين، ومجموع الأحكام الشرعية التي تنظم وتضبط حياة المسلم العقدية والدنيوية، والمسلم المقصود من التعريف السابق هم المسلمون المعاصرون لزمن التنزيل، لأن كل التشريعات كانت نتاج تفاعل أحكام الشريعة مع واقع الصحابة ومحاولة ضبط إيقاع الحياة الاجتماعية بدولة الإسلام الحديثة. لا توجد أحكام شرعية تستشرف المستقبل وتكشف حجب الغيب فترشد المسلمين لما ينبغي فعله فيما سيطبع حياتهم المستقبلية من حوادث.

الشريعة، بهذا التعريف الذي يكاد يكون مجمعا عليه من الفقهاء، محدودة في الزمان والمكان وعدد الشرائع، ومناقضة لدعوى صلاحيتها الزمكانية المطلقة. مأزقٌ تنبهت له المذاهب والمدارس الفقهية التي تصدت للإفتاء والتدريس، فهرعت لتأسيس ما يسمى بالقواعد الفقهية ونظرت لفقه المقاصد الشرعية، كحَلٍّ لتجاوز محدودية الأحكام واستيعابا للواقع المتجدد، وفتحا لباب الاجتهاد من أجل استنباط وإنشاء أحكامٍ شرعية لم ترد منصوصا عليها في الكتاب والسنة.

يقول فخر الدين الرازي في كتابه “المحصول في أصول الفقه”، 6/23، عند حديثه عن شرائط المجتهد وضرورة إلمامه بآيات الأحكام في القرآن أنه “لا يشترط فيه معرفة جميع القرآن، بل ما يتعلق منه بالأحكام وهو خمسمائة آية”. وهو ما أكده الغزالي في كتابه “المستصفى” بنفس العبارة، محددا عدد آيات الأحكام بخمسمائة آية. هذا التحديد هو أقصى ما ذهب إليه من حاول استقصاء آيات الأحكام؛ وإلا، فهناك من العلماء كابن قيم الجوزية من حددها بمئة وخمسين آية. أما عدد الأحكام في السنة النبوية، “فقد سُئِلَ الشافعي: كم أصول الأحكام؟ فقال: خمسمائة حديث. قيل له: فكم أصول السُّنن؟ قال: خمسمائة”، عن “مناقب الشافعي للبيهقي”، 1/519.

مدار الأحكام والسنن على ألف حديث نبوي، وقد حاول ابن حجر العسقلاني استفراغ الوسع في جمع كل أحاديث الأحكام في كتابه “بلوغ المرام”، فلم تتجاوز 1570 حديثا، فيها الصحيح والضعيف.

وعلى فرض اعتبار كل آيات القرآن أحكاما شرعية، فلن تتجاوز الاحكام المستنبطة مجموع آيات القرآن 6236 آية. ولعل سائلا يسأل: كيف يمكن أن تشمل الأحكام الشرعية المحدودة والمنتهية، الواقعَ المنساب والمتغير؟! وكيف سنعتبر الأحكام المستنبطة أحكاما شرعية، فننسبها للشريعة والوحي قد انقطع بوفاة صاحب الرسالة؟! وكيف سنتجاوز أحكاما ظرفية شرعت لزمانها وفق اشتراطات وسياقات معينة؟!

● الاجتهاد الفقهي كبديل عن محدودية الأحكام

إن هذه المحدودية في مصادر التشريع الرئيسية، اضطرت الفقهاء إلى فتح باب الاجتهاد أمام فئة اجتماعية اشترطوا فيها شروطا قاسية لتبويئها هذه المكانة العلمية، وحمَّلوها مسؤولية إيجاد مصادر أخرى لاستقاء الأحكام، كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة…

ورغم تنويع مصادر التشريع، إلا أنها ظلت مؤطرة بحدود وثوابت لا يمكن تجاوزها، فاستنفذتها معضلات الواقع وحيويته وضغط الاحتكاك الثقافي مع العالم الغربي، فلجأ الفقهاء إلى استدعاء فقه المقاصد وتكلفوا نسبتها إلى الإمام الشاطبي وهو منها براء. والمقاصد مصطلح فضفاض، أو باردايم Paradigm، سيحاول من خلاله الفقهاء المعاصرون، الذين حاولوا التخفيف من الفوارق الثقافية بين الحضارة الغربية والعالم الاسلامي المتأزم، إيجاد عباءة تشمل كل جديد الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تحت غطاء مقاصد الشريعة وإرادة الشارع الصلاح ودفع الضرر عن المكلفين.

إن الاجتهاد، منذ بداياته الأولى في عصر الصحابة والمذاهب الفقهية الأربعة، انتهاءً بزمن المسلمين اليوم، عند استقراء الكثير من جزئياته، هو نوع من التشريع المستقل، رغم محاولة صبغه بشرعية مزعومة؛ فعندما يهرع الفقيه إلى العرف والاستحسان والمصالح المرسلة لإنشاء الأحكام، فهذا نوع من التشريع؛ وعندما يلغي الفقيه النص الشرعي أو يقيده بالمصلحة أو جريان العرف على خلاف الحكم الشرعي، فهذا تشريع؛ وعندما تجد أغلب اجتهادات المجالس الفقهية توافق تشريعات الغرب في الكثير من المسائل الاجتماعية والاقتصادية، فهذا إقرار بصحة التشريع الغربي المراد إضفاء الشرعية عليه؛ وعندما تُراجع الكثير من الفتاوى التي تغيرت تحت تأثير الضغط الشعبي فأباحت بعدما حرمت فهذا تشريع؛ وعندما تجد الأحكام المراد تنزيلها على نفس الواقعة مختلفة بين المذاهب حد التناقض والتنافر رغم وحدة مصادرها فهذا تشريع، وعندما ننتظر الأمم المتقدمة حتى تتفتق أذهان علمائها عن نظريات في مختلف العلوم، أو يُجري أطباؤها عمليات لم تكن تخطر على البال، أو تنتج مصانعها أدوات تقنية من عالم الخيال، ثم يسارع الفقهاء دون استحياء لإصدار كتيبات تضبط الاستعمال الشرعي لتلك المنتجات أو الإفتاء بحل زرع الكلى وقلوب الخنازير في أجساد البشر، فهذا تشريع؛ وعندما تجد الهيئات الرسمية المُنَصَّبَة للفتوى في دول المسلمين توافق آراء الحُكام السياسية والاجتماعية ولا تخالفها قيد أنملة، فهذا تشريع ومخالفة للشريعة؛ وعندما يُقر الفقهاء بأن “المعروف عرفا كالمشروع شرعا” ويُصرح بعضهم بأن “من استحسن فقد شرع”، وتجد الاستحسان معمولا به منذ فقهاء المئة الأولى فهذا أيضا تشريع…

فهل الشريعة التي تتم الدعوة لتطبيقها هي افتتاح الفتاوى بالبسملة وتَنْكِيهها ببعض التوابل الإسلامية، ثم تجد الحكم المُفتَى به موافقا تماما لتشريعات الغرب لا يحيد عنه ملمترا واحدا، فالأبناك الإسلامية لا تختلف في تعاملاتها كبير اختلاف عن معاملات الأبناك الكلاسيكية، وفتاوى الشيخ القرضاوي ومجالس الجالية الأوروبية تكاد تكون أكثر حداثة من تشريعات الأوربيين أنفسهم (يُنظر فتوى جواز قتال المسلم مع جيش الدول التي يقيم بها حتى لو كانت ستغزو بلاد المسلمين وفتاوى المشاركة السياسية وفتاوى استعمال الدمى الجنسية…).

إن الحالمين بتطبيق الشريعة من المتدينين العوام، يعتقدون أن الشريعة كتاب مفتوح سُطِّرت فيه كل الشرائع التي يحتاجها المسلم، ولا يدركون أن الشريعة التي ستحكمهم هي عقلية كهنوت ديني منحاز للسلطة السياسية، أو متعصب لمذهبه الفقهي أو مجتهد محدود المصادر سَيُعْمِل عقله ليشرع كما يشرع العالم قوانينه وفق ما تمليه الظرفية التاريخية بكل حمولتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

فما الفرق بين الفقيه المجتهد وبين البرلمانات المنوط بها تشريع الأحكام للمجتمع الذي انتخبها حتى يكفرها الاسلاميون؟

إن مؤسسة الفتوى والشخصية الاعتبارية للفقيه المجتهد قد تجازوها الزمن بتعقيداته وتشعباته وانسيابية المعلومة فيه، وأضحت أية محاولة لإحياء كهنوت يمارس الوصاية على المجتمعات نوعا من الانفصال عن الواقع وتغريد خارج المنظومة الدولية، فالتشريع اليوم في حاجة لمؤسسات مختصة وخبراء مؤهلين ومطلعين على العلوم الانسانية والمادية؛ فكيف سيفتي الفقيه في علوم الكوانتوم والنانو تكنلوجي، والتجارب الطبية المعقدة، ونظريات علم الاجتماع وعلم النفس والفلك والنظم السياسية المعاصرة؟

إن المعضلة التي ينبغي على المسلم تجاوزها اليوم هي إدراكه:

أن أحكام الشريعة محدودة في العدد والزمكان، وأنه مهما حاول الفقهاء الاستنباط من أصولها، فهم كطبيب التجميل الذي يمدد جلدا مترهلا لامرأة عجوز ليعيد لها نضارة الشباب وينعان الصبا، ولن يصلح الطبيب والفقيه ما أفسده الدهر.

وأنه ليس هناك تلازم بين التشريع والتوحيد، فالمسلم يعتبر التشريع من خصائص الإله، وأن كمال التوحيد هو أن يكون الله هو المشرع من باب قوله تعالى: “ألا له الخلق والأمر” وقوله: “إنِ الحُكم إلا لله”. لكن لو تدبر قليلا لعَلِمَ أن الآمِر بتحكيم الشرع قد انقطع وحيه بموت رسوله ولم ينقطع الواقع عن التجدد والاستمرار، فعندما يستطيع المسلم أن يفصل بين تطبيق الشريعة وتحقيق التوحيد، سيفهم أنه باجتهاده في فهم الأحكام وتشريع غيرها، وفق ما تقتضيه المصلحة، لن يخدش توحيده، ولن يخالف المقصد العقدي الأسمى من رسالة الاسلام، وكذا المقصد الفقهي الرامي لتحقيق المصالح.

هذا الخلط بين العقدي والفقهي هو الذي يدفع عامة المسلمين للاعتقاد أنهم، بنبذ بعض الشرائع التي عفا عنها الزمن، أو تشريع القوانين التي تتوافق مع جديد حياتهم، هو نوع من الشرك وخروج عن العبودية، بينما الأمر واسع جدا، ولا تلازم بين التشريع والتوحيد إلا في تحقيق مصالح العباد، ورسول الإسلام أفهم أصحابه في الحديثين الصحيحين أن لهم حرية التصرف في تكييف أحكامهم حسب الظروف الراهنة، ونسبتها لأنفسهم عند صياغتها وعدم نسبتها للشرع.

1- عن بريدة قَالَ: قال رسول الله: “وإذا حاصرْتَ أهلَ حِصنٍ فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيّه فلا تجعلْ لهم ذمة الله وذمة رسوله، ولكن أنزلهم على ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أنْ تَخفِروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهلَ حصنٍ فأرادوك على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أَتُصيبُ حكمَ الله فيهم أم لا” رواه مسلم.

2- عن أنس أن رسول الله مر بقوم يلقحون النخل فقال: لو لم تفعلوا لصلح، قال: فخرج شيصا “تمرا رديئا” فمر بهم فقال: ما لنخلكم؟ قالوا: قلت كذا وكذا.. قال: أنتم أعلم بأمور دنياكم.

يقول ابن القيم في كتابه “الطرق الحكمية”: “السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرِّمها، وسياسة عادلة تُخرج الحقَّ من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، عَلِمَها من عَلِمها، وجهِلها من جهلها”. ويضيف: “إن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه، ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات… فأيُّ طريقٍ استُخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له. فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسمِّيها سياسةً تبعاً لمصطلحهم، وإنما هي عدْلُ الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات”.

 

مقالات قد تهمك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *