هل أصبح بعض الفقهاء مجرد ترف في الوجود المجتمعي المغربي؟ 2 - Marayana - مرايانا
×
×

هل أصبح بعض الفقهاء مجرد ترف في الوجود المجتمعي المغربي؟ 2\2

تابعنا في الجزء الأول (تجدون رابطه في أسفل المقال) رأي السّيميائي سعيد بنگراد، الذي اعتبر أنّه لا حاجة للمغاربة بخطاب الفقهاء اليوم، وعرضنا أيضا رأي السوسيولوجيّ ياسين أجانا، الذي قال إنّ الفقهاء يساهمون في تعقيد وبرقرطة الحقل الديني (أي جعله بيريوقراطيًّا).
في هذا الجزء الثاني، نقدم رأي الباحث في الفكر الإسلامي محمد عبد الوهاب رفيقي، وكذلك الباحث في أنثروبولوجيا الدين أحمد صابر.

يقول أبو حنيفة: “قولنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا”… لكن، ما الذي يجعل هذه النسبية وهذا التواضع المعرفي غائبان عند بعض فقهاء اليوم بالمغرب؟ بل كيفَ استفحلت النزعة الإطلاقيّة في الآراء والوثوقيّة في التّصورات؟ ولماذا يعتبرُ الفقهاء قولهم يحمل طابع القَداسة ومن نقده فهو مرتدّ أو كافر باعتبارهم “ورثة الأنبياء”؟

لم يتوقّف بعض الدعاة عن نهجهم “السلفيّ”، الذي يمتح من مواقف تسيء إلى روح التدين الفردي الخالص، ويبدون وكأنهم يوزّعون “صكوك الغفران”.

هذه المواقف تجعل المخيال المجتمعي العام، يعيد النظر في تقديس أقوال الفقيه ويسائلها، بما يساهم في التشويش على المكانة الاعتبارية له.

محمد عبد الوهاب رفيقي: الدولة هي التي همّشت الفقيه

لا يتردد محمد عبد الوهاب رفيقي، الباحث في الفكر الإسلامي، كثيراً ليقول ما مفاده أنّ ملاحظتَه للشأن الديني بالمغرب، تخبرُ بتراجع ما في السّلطة الرّمزيّة للفقهاء أو رجال الدّين. فلا شكّ أنّ حظوتهم أضحت أقلّ حدّة بالمقارنة مع السّابق.

في وقت يعتبر فيه البعض أنّ الأمر يرجع إلى موجة الرّقميّة، يحيلُ رفيقي المسألة على ما فرضته “الدّولة الحديثة”، التي دخل غمارها المغرب. ذلك أنّ هذا النّهج الحديث همّش المؤسسة الفقهيّة بكيفيّة من الكيفيّات، حين بلور المغربُ قوانيناً وضعيّة، سحبت الفقهاء مما هو سياسي واقتصادي، فتُرك ليواجه أمور اجتماعيّة وحياتيّة، كالأسرة والشّعائر، مثلاً.

وفق ما ذكره رفيقي لمرايانا، فإنّه لم يعد للفقيه ذلك الدّور الكبير في اتخاذ القرارات كما كان الوضع آنفًا… “من أخذ برأي الفقيه في سلك طريق نظام ليبرالي يعتمد على اقتصاد السّوق والبنوك، التي يصنّفها الفقهاء كبنوك ربوية؟ هل المعايير المعتمدة بين الدّول تستجيبُ لأقوال الفقهاء اليوم؟”

… وأصلاً، من لازال ينظر إلى “التقسيمات الفقهيّة الواردة في التراث بين دار السّلم ودار الحرب؟ أو تقسيم الجهاد بين جهاد الطلب وجهاد الدفع؟ ولعلّ الإجابة عن هذه الأسئلة تنبّئ بتراجُع كبير في دور رجال الدّين بالمَغرب“.

أكثر من ذلك، يعتبر رفيقي هذا الإقصاء مقصوداً، ويرمي لانتزاع شرعيّة الفقيه من مجموعة من المجالات والميادين، وحصره فيما هو عقديّ وتعبّدي، وإن شئنا اجتماعيّ.

كما يعود الباحث في الفكر الإسلامي إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ويعتبرها مسألة بعديّة ولاحقة لكلّ هذا التّهميش، لتجهز على سلطة الفقيه الاعتباريّة داخل المجتمع.

الرّقمية، هنا، لعبت دورا حاسما في إيصال المعلومات بشكل سريع جدا، وبينت كثيراً مما كان يخفيه هؤلاء الفقهاء. وفضحت الكثير من تناقضاتهم، وكشفت ضعف بعض تحليلاتهم وسطحيّة كثير من سردياتهم. وألحّت على الحدّ من تجذيفهم وإطلاقيّة أحكامهم. وبالتالي إضعاف حُججهم التي طالما رافعوا بها، بصرفهم النظر تماما عن واقع متغيّر بسرعة قياسيّة.

أصبح الفقهاء محطّ سخريّة واستهزاء وازدراء، وهو أمر لم يحدث من قبل بهذا الشكل. هذا مع الإشارة أنّ كثيراً من الناس لازالوا يكيلون للفقيه نوعاً من الاحترام والتقدير، لكن مساحة هؤلاء، عمليًّا، باتت تنحسر يوما بعد يوم.

حتى إن كان للفقهاء من دور اليوم، فرفيقي يصرّ على إدراجه في خانة التوجيهي والتّوعوي فقط، وليس الإلزاميّ للآخر أو الدور المتغطرس بامتلاك الحقيقة؛ فوجهة نظر الفقيه يمكن اعتمادها في بعض القضايا المجتمعيّة، لكن شرط أن تكون نظرة إنسانويّة سمحة، تراعي قيم التسامح والتّعددية والاختلاف والعيش المشترك، وتخلو من كل ما من شأنه العودة بالنّقاش إلى الوراء، خصوصاً في قضايا مثل الإرث والإنهاء الإرادي للحمل.

لذلك، بالنسبة لرفيقي، فدولة تقوم شرعيّتها على إمارة المؤمنين، لا يمكن أن يلغى فيها دور الفقهاء بالمطلق، ولا ضير في العودة إليه وإشراكه في بعض القضايا.

أحمد صابر: وجود الفقهاء مطلبٌ إنسانيّ

من جهة أخرى، يرى أحمد صابر، الباحث في أنثروبولوجيا الدين، أنّ الفقهاء، رغم كلّ ما يعيشونه من وضع اليوم، فوجُودهم يبقى مطلبًا إنسانيًّا وأنثروبولوجيًّا يتّصل بجميع الثّقافات والأزمنة حيثُ يعيشُ الدّين.

الإنسان، في جزء مهم من العالم، مجرد كائن متديّن، ويحتاج إلى فهم مقبول للظّواهر الدّينيّة المحيطة به؛ والفقيه أو رجل الدين هو الذي قد يساعدُ في عمليّة الفهم هذه. بالطّبع، تبقى التّساؤلات مطرُوحة حول قيمَته وماهيّته، وهل ينسجم مع ظروف الحاضر أم هو متصل بظروف الماضي ومنقطع تماماً عن الحاضر، إلخ، لكن وجوده أمر ضروريّ.

يشرح أحمد صابر لمرايانا أنّ الكثيرين توهموا، في زمن بروز الفلسفة الماديّة، أن الدّين سيندحر، وأنّ الإنسان سيتحول إلى كائن لاديني. لكن، هناك حقائق مطروحة، متصلة بضعف الإنسان، سواء على المستوى العقلي أو العلمي أو النفسي، إضافة إلى عوامل الخوف، وغيرها من الأسباب التي جعلت الإنسان يرتبط بقوى غيبيّة.

في المقابل اتضح أنه، كلما اتسعت مساحة العلم إلا وتراجعت الغيبيات… لكن سيرورة الزّمان بينت أن الدّين يحضر اليوم حتى في المجتمعات الأكثر حداثَة، فليس المطلوب إنهاء الدين، فذلك مستحيل، لكن المطلوب أن نتقبل الآخر، وأن ينخَرط الخطاب الدينيّ في الحضارة الحديثة.

بهذا المعنى، يقول الباحث في الأنتروبولوجيا إنّ “علماء الإسلام” أو “علماء الشريعة” أو “علماء مقتضيات الأحكام”، هم يتواجدون داخل دائرة كبيرة تجمع كلّ أصنافهم، فهناك المقلّد أو لنقل الماضويّ المُفرط في التّقليد، الذي لا يرى الحاضر إلا من خلال الماضي، وهذا لا يأت بأي جديد، وظلّ محصوراً في طروحات “قديمة” أو “ثابتة” بالنّسبة إليه.

لكن، على النّاحية النقيض، هناك فقهاء مجددون متسامحون ومتعقّلون، ولا يجدون حرجًا في معالجة الأسئلة الحارقة التي يطرحها الواقع اليومي وفق منظور متقدم وعقليّ.

ولا شكّ أنّ ثنائيّة التّجديد والتّقليد موجُودة في كلّ الدّيانات من إسلامٍ ومسيحيّة ويهوديّة وبوذيّة، إلخ. غير أنّ هذا العصر “الموبُوء” بالأسئلة الوجوديّة والكبِيرة، لم يعُد يتحمّل أجوبة ماضويّة أو تقليدانيّة نابعة من “ذهنيّة التحريم”. ليس دور الفقيه أن ينوب عن الله فوق هذه الأرض، وليس من حقّ أي رجل دين أن يحتكر تأويل النّصوص الدّينية، لأنّ كل ما هو بشري نسبيّ بالتّبعة، ومنذور للخطأ أيضًا.

لذلك، يجملُ صابر، أن الفقهاء المغاربة الذين يعترضُون عن أمر العقلنة وأمر التجديد والنّظر، هم يعيشُون، إن شئنا، خارج التّاريخ، لأنّهم حنّطوا تصوّراتهم في أزمنة ماضية لا تنتمي إليهم، ويرونَ الدّين في المورُوث الدّيني الذي تشكّل في التّاريخ. هذا المورُوث هو مجرّد صناعة بشريّة، لكن الفقهاء أضفوا عليه طابع القداسة والثّبات وهو ما أدخل كثيراً منهم في صراع مع العصر.

لكنّهم أمام خيارين: إمّا ولوج العَصر دون التّصادم مع قيم الحُرية، أو فرض عزلة اختياريّة على أنفسهم…

في نهاية هذا الملف، تريد مرايانا أن تؤكد أنّ وجود الفقهاء “كشرط اجتماعي وتاريخي” ربما مهمّ لكثير من المغاربة، وذلك حقّهم. غير أنّ الحقل الديني المغربي عموماً في حاجة إلى فقهاء متنوّرين، يساهمون في الدفع بقيم الحداثة والعلمنة والتشجيع على التفكير الحر والنقدي وعلى جعل الدين والتدين اختياراً فرديًّا وليس سلطة جماعيّة إجباريّة.

المغرب، ربما، لم يعد في حاجة إلى فقهاء يعيشون على إيقاع تجربة إسلاميّة متخيّلة في المعتقد، بل لفقهاء منخرطين في المجتمع الحَديث… قناعةً ومُمارسةً!

مقالات قد تثير اهتمامك:

تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *