قانون حمورابي: ملامحُ تشريعٍ عنوانُه “القصَاصُ” حيناً و”الحدَاثةُ”… حيناً! 2\3
في الجزء الأول من هذا الملف (تجدون رابطه في أسفل المقال)، تعرّفنا إلى الملك حمورابي وجهوده في توحيد الإمبراطورية البابلية، ودعم هذا التوحيد بشريعة قانونية تستمدّ روحها من القوانين السّومرية السّابقة لها زمنيًّا.
في هذا الجزء الثاني، نقدّم بعض السمات والملامح التي درسها الباحثون في قانون حمورابي، فضلاً عن النقد الذي تعرّضت له، والرّدود الممكنة على هذا النّقد.
هناك تقريباً إجماعٌ على “عدالة” قوانين حمورابي في شموليّتها، ومعالجتها للمسائل الاجتماعية الهامّة. فكيف تمّ ذلك يا ترى؟
من سمات قانون حمورابي
بالنّظر إلى العصر الذي ظهر فيه هذا القانون، فإنّ الباحثين اعتبروه تقدميًّا، بالمقارنة مع القوانين والأعراف التي سبقته.
التشريع أوكل تنظيم الأمور الجنائية للملك والقضاة، بدل الانتقام الفردي کالأخذ بالثأر، وتمّ إلغاء التعويض الاختياري عن الجرائم، والاستعاضة عنه بالتعويض الإجباري، وهو دلالة على نمو فكرة السلطة والدولة، واضطلاعها بتحقيق العدل.
هذا إضافة إلى كونه أولى عناية بالأسرة وتماسكها، فلم يبح الزواج عن طريق الخطف؛ وكان للمرأة، نوعاً ما، مكانة جيدة في قانون حمورابي، حيث حفظ لها حقها في حالات الطلاق، لاسيما دون سبب، لكنّه قضى على تلك القيمة الحداثية في مواد قانونية أخرى. كما كان منصفا للمدين، وخاصة عندما يكون الدائن يتّصفُ بالجشع، ويطمح إلى تحصيل فوائد مرتفعة عن الديون. [1]
من أبرز سمات هذا القانون، احتواؤُه ثُلّة من العقوبات القاسية جدّا، على غرار الإعدام وبتر الأعضاء وقطع الأذن أو اللسان أو فقؤ العين وغيرها من العقوبات البشعة، التي تقعُ على الجاني في دولة حمورابي.
بعض الجرائم يكون جزاء القتل فيها ذبحاً، وأخرى عقوبتها القتل غرقاً في النّهر، فضلاً عن أفعال جرمية قابلها القتل حرقاً كآلية زجرية.
بعودة مرايانا إلى القوانين والاطّلاع عَليها، اتّضح أنّها في مجموعها، تعتمد آلية الشّرط: “إذا حدَث… فإنّ”.
مثلاً، تقول المادّة 25: إذا النار شبّت في دار سيّد، وذهب سيّد لإطفائها، فحطّ عينه على أموال صاحب البيت، فإن هذا الرّجل يلقى في النار هذه. [2]
في نطاق آخر جاء في المادّة 108: إذا استلَمت بائعةُ خمرٍ نقوداً بالوزنِ الثّقيل ثمناً لشربة بدل استلامها غلة، وجعلت قيمَة الشّربة أقلّ من قيمة الغلّة، فعليهم أن يثبتُوا هذا على بائِعة الخمر ويقذفُوها بالماء. [3]
هذا المثال، على نحو ما، يوضّح مدى حرص الدّولة البابلية على تقنين التبادلات التّجارية، كما يظهر، بكيفية من الكيفيات، صورة المرأة البابلية وحضورها في الحَياة الاجتِماعية.
المثير أكثر في هذا المثال وغيره، هو ضرورة توفّر عنصر الإثبات في كلّ فعل جُرمي، وهو دليل قاطع على ما ذهب إليه كثيرٌ من الباحثين، على أنّ حمورابي اعتمد، فِعليًّا، قاعدة: المتّهم بريء حتى تثبُت إدانته.
مع ذلك، تبقى شريعة حمورابي نموذجاً واضحاً للصّرامة والقَسوة، خصوصاً هيمَنة مبدأ القصَاص أو العين بالعين. طبعاً، هذا إذا ما حاولنا إسقاط ما وصلت إليه السياسات الجنائية من تطوّر، على قوانين حمورابي؛ خصوصاً ما يتعلّق بتضمين العقوبات مبادئ الأنسنة والاحتكام لحقوق الإنسان.
لكن، بالمقابل، لا يخفى أنّه وسط هذه القسوة في العقوبات والجزاء، تفتّقت قيمةُ العدل لحماية الضّعيف من ظُلم القوي، في حالاَت كثِيرة.
الملاحظُ أنّ هذه القوانين خضعت لمعايير متباينة بين الطّبقات الثلاث في المجتمع البابلي: الطبقة الملكية أو الأسياد، والمعتّقين، والعبيد، وعقوبة قتل العبد ليسَت هي عقوبة قتل السّيد.
هذا وقد أقرّ قانون حمورابي بعض الحقوق للرقيق، خاصّة فيما يتعلّق بالزّواج والميراث وممارسة التجارة والعمل؛ فللعبد أن يتزوج من طبقته، أو حتى من طبقة الأحرار. [4]
من السّمات الأخرى التي ينبغي الانتباه إليها، هي “ما اكتشفه باحثون أركيولوجيون من رسائل عديدة كان حمورابي يتداولها مع مندوبيه في المناطق البعيدة عن عاصمة ملكه، بابل، وتحمل توجيهات منتظمة حول الحكم والإدارة، بما في ذلك تفاصيل توجيهية تتعلق بشؤون الزراعة والتوزيع العادل وتقنيات الري وشق الأقنية، مع حرص حمورابي على أن تحمل ردود مساعديه ونوابه إليه أجوبة واضحة وإيجابية تتعلق بكل ما يطرح من مسائل”. [5]
حين جُلد القانون!
حتى لو قيل عنهُ إنّه أنضجُ قانون عرفهُ الإنسان القديم، فإنّ شريعة حمورابي لم تكن في مأمن من تعرّضها للجلد والنّقد الحاد.
الذين يدافعون عن هذا القانون يعتبرون أنّ النّقد لم يكن أبدا مقبولاً ولا موضوعيًّا، لأنّه يحاكم تجربة تعود إلى ما قبل الميلاد بمكنزمات حديثة ومعايير قانونية متّسمة بالجدّة زمنيًّا، وتنتمي حصراً لما بلغه الإنسان في تطوير القانون وأنسنته.
من أهمّ الانتقادات أنّ القانون اعتمد مبدأ القسوة في الأحكام، إذ قال البعضُ إنّ حمورابي لم يجار التطور العام في الأحكام، حيث رجع إلى مبدأ القصاص في العقاب، الذي تمّ إلغاؤه في القوانين السومرية السّابقة التي انتهل منها.
هذه القوانين نهجت مبدأ الدّية، خصوصاً قانون أورنمو، الذي سبقه بحوالي 700 عام. كما أن حمورابي اتسم بطابع القسوة في العقوبات الجنائية، كما قُلنا؛ بحيث جاءت عقوبة الإعدام في حالات كثيرة، كما جاءت نصوص أخرى بأحكام بتر الأعضاء. [6]
لكنّ ردّ المدافعين كان، أنّ تأسیس دولة موحدة تصبو إلى التقدم والازدهار والرخاء والعدل، استدعى كثيراً من القسوة لتوطين القانون وإخضاع الرعايا واستتباب الأمن. القسوة، بهذا المعنى، هي طريقٌ للقطع مع حالة الفوضى التي كانت سائدة في دويلات المدن في بلاد النهرين.
أيضاً، قيل عن هذا القانون إنّه استند إلى أسلوب عرض للمواد ينتفي فيه المنطق، بمعنى أنّ “طريقة عرض مواد قانون حمورابي تختلف عن الخطة المعتادة في ترتیب مواد القوانين الحديثة، حيث تتضمن الأخيرة فصولا تضم مجموعة أحكام تعالج مسألة معينة أو مسائل متقاربة. هكذا، تتعاقب الفصول بشكل منطقي مقبول”. [7]
أي تمّت “محاكمة” القانون على أنّه أتى على شكل مواد متسلسلة دون تقسيمها إلى أبواب وفصول.
لم يترك المدافعون عن قانون حمورابي هذه الفكرة تمرّ، إذ برروا الأمر متحجّجين بمنطق آخر، وهو أنّ التسلسل القانوني المنطقي الحديث، القائم على عرض المواد القانونية بحسب موضوعاتها، لم يكن معروفاً في التّفكير القانوني العراقي القديم.
كما تمّ جلدُ قانون حمورابي بأنّه لم يذكر بعض المسائل المهمة، ولم يخصص لها أحكاما قانونية، إنّما اكتفى بذكرها عرضياً، ونظمها أحيانا ضمن معالجة حالات ووقائع أخرى، بحيثُ تم تفسير ذلك بكونه لم يعر الاهتمام لقضايا مهمّة بطبيعتها: جريمة الشروع في القتل، جريمة خطف الرقيق، سرقة المياه، ولم يتطرق بتفصيل إلى أهم عقد وهو عقد البيع بشكل مباشر، إنّما لمسهُ عرضًا فحسب. [8]
الردّ من المعاصرين جاء سريعاً، ومضمونه أنّ حمورابي لم يقنّن كل “الأعراف والقوانين التي كانت سائدة في عصره؛ بل عالج ما كان غامضاً منها أو محل شك أو مختلف عليه أو أراد إدخال تحوير عليها، أو إبدالها، إلخ. لذا، فإن الحالات غير المنصوص عليها تطبّق بشأنها القوانين والأعراف السائدة، فقانون حمورابي لم يلغ تلك القوانين والأعراف الموجودة التي لا تتعارض مع روح الشّريعة”. [9]
هناك أيضاً إشكاليّة ثنائية الحلول، حيثُ وضع حمورابي أحياناً حكمين مختلفين لمسألة واحدة، أحدهما مستمدّ من أصل سومري والآخر أكدي؛ خاصّة في مسائل الأحوال الشّخصية كالزواج والطلاق وغيرها. هذا يعني إمكان اختِيار الأفراد أيًّا من الحكمين دون الآخر. [10]
بخصوص الردّ على ذلك، فإن فريقا من الباحثين ارتأى أنّه غداة تأسيس الدولة الموحدة في العراق، دفعت الفطنة والحنكة بحمورابي، إلى توحيد القانون بالتّبعة، خصوصاً في الجزأين المهمين من إمبراطوريته وهما سومر وأكد.
لا شكّ أنّه، ربّما، حاول جعل الكفّة تميلُ نحو الحضارة الأكدية على حساب السومرية، لكنّه لم يفلح، لأنّ بعض النظم القانونية السومرية، التي كانت سائدة، كانت ضرورية. لذا، أدخلها في قانونه بجانب حلول أكدية. [11]
جاء في النّقد كذلك، أنّه لم توجد قواعد ومبادئ عامة تسمحُ بالاستناد إليها في تفسير جميع الحالات التي تنطبق عليها شروطها، كما هو الحال في القوانين الحديثة، بل جاء بحالات محّددة عملية ووضع لها أحكاماً خاصة.
أمّا بخصوص الردّ فكان… أنّ وضع قواعد ومبادئ تستلزم إدراك الكثير من التّجريد والتعميم، هو من خصائص القاعدة القانونية الحديثة، وهذه الحالة لم يدركها العراقيون القدماء في تلك الفترة، وأنّه بفعل النزعة العملية لقوانينهم، ابتعدوا عن الخوض في النظريات العامة. [12]
في الجزء الثّالث والأخير من هذا الملف، نقدّم صورة المرأة في قانون حمورابي، وكيف حصّن بعض حقُوقها.
هوامش:
[1] شعيب أحمد الحمداني، قانون حمورابي، الناشر العاتك، القاهرة، توزيع المكتبة القانونية، بغداد، الطبعة الثانية 2008.
[2] محمودالأمين، شريعة حمورابي، دار الوراق للنشر المحدودة، لندن، الطبعة الأولى 2007.
[3] المرجع نفسه.
[4] شعيب أحمد الحمداني، المرجع السّابق.
[5] إبراهيم العريس، عن مقاله: “شرائع حمورابي” قوانين للعدل والاقتصاد والحكم التوحيدي قبل 4 ألفيات.
[6] شعيب أحمد الحمداني، المرجع السّابق.
[7] المرجع نفسه.
[8] نفسه.
[9] نفسه.
[10] نفسه.
[11] نفسه.
[12] نفسه.
- الجزء الأول: قانون حمورابي… حين اهتدى الإنسان القديم إلى نُضج “التشريع”! 1\3
- الجزء الثالث: المرأة في قانون حمورابي: محاولاتٌ للإنصاف. ولكن… 3\3