هكذا تستقطب التنظيمات المتطرفة الانتحاريين عبر الشبكة العنكبوتية
تنفي التنظيمات المتطرفة الملكات الفكرية للمستقطبين، ثم تأمرهم بأن ينفذوا ما تطلبه منهم… وتكون قبل ذلك قد وفرت إجابة عن أسئلتهم الوجودية، وإجابة سياسية عن العدل، وفضاء استقبال وشعورا بالانتماء؛ ذلك أن الأفراد على نحو عام بحاجة إلى المعنى ورد فعل ضد الظلم المعيش.
فجرت امرأة نفسها في تونس بحزام ناسف، الاثنين 29 أكتوبر 2018، فأسفر الحادث عن إصابة ثمانية أشخاص؛ وعاد الإرهاب مرة أخرى ليتصدر المشهد الإخباري بشمال إفريقيا.
هذه الانتحارية، وفق وزارة الداخلية التونسية، لم تكن معروفة لدى المصالح الأمنية بالتطرف، ولم يلاحظ عليها أي انتماء إرهابي سابقا. قد لا يكون الأمر غريبا، لكن… لماذا؟
يعود بنا هذا الخبر على نحو ما إلى مفهوم “الذئاب المنفردة”… هؤلاء أشخاص ينفذون هجمات مسلحة بدوافع عقائدية أو سياسية أو نفسية اجتماعية، فيما لا يربطهم انتماء واضح بأي تنظيم متطرف.
السؤال هنا، كيف تتم صناعة الذئاب المنفردة؟
تشكل الشبكة العنكبوتية، في هذا الصدد، سبيلا قد يكون مُؤَمّنا لاستقطاب هؤلاء من قبل تنظيمات متطرفة، واستخدامهم في عمليات إرهابية. ولا شك في أنه لن يكون بمقدور هذه التنظيمات الوصول على نحو سهل إلى فئات واسعة من الأشخاص في العالم كله، دون أنترنت.
تشير مصادر غربية إلى أن أول موقع إلكتروني متطرف، أنشأه متطرف أمريكي يدعى “دان غانون” مع ولادة الإنترنت في الولايات المتحدة، عام 1991، بغية بث أفكاره العنصرية عن نقاء العرق الأبيض.
تؤكد دراسة صدرت عن المركز الدولي لدراسة التطرف بلندن، عام 2014، أن الدعوة إلى الجهاد تجاوزت المساجد والأئمة إلى الإنترنت، وصار يطلق عليها “Googlistan”. ذات الدراسة أوضحت أن 90 بالمائة من الذين أصبحوا متطرفين في فرنسا، مثلا، استقطبوا عبر الإنترنت.
اقرأ أيضا: “ما بين الاستباق الأمني وتحديث الشأن الديني.. المغرب في مأمن من الإرهاب اليوم، لكن…”
من جانبه، أكد مهدي مبروك، مدير مكتب تونس للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في تصريح سابق لوكالة الأناضول، تنامي نشاط الاستقطاب عبر الإنترنت، موضحا أن الأرقام الرسمية في تونس تثبت أن 75 بالمائة من العناصر المتورطة في شبكات إرهابية تم استقطابها عبر الإنترنت، مقابل دور ضعيف للمساجد لا يتعدى الـ4 بالمائة”.
الشبكة العنكبوتية… بوابة خفية إلى الإرهاب!
الواقع أن استخدام الإنترنت في نشر الأفكار المتطرفة، قديم قدم الإنترنت نفسه… تشير مصادر غربية إلى أن أول موقع إلكتروني متطرف، أنشأه متطرف أمريكي يدعى “دان غانون” مع ولادة الإنترنت في الولايات المتحدة، عام 1991، بغية بث أفكاره العنصرية عن نقاء العرق الأبيض.
التنظيمات المتطرفة منذ البدء، إذن، لم تفلت فرصة ظهور الإنترنت كقناة للتواصل واسعة الانتشار، قصد استخدامها للدعاية لأفكارها واستقطاب أشخاص جدد يمكن أن يحولوا الفكرة إلى فعل… ولا شك في أن ذلك تعزز بفعل ظهور الشبكات الاجتماعية، وإمكانية الولوج إلى ما يسمى بـ”الأنترنت المظلم”.
الخطاب المتطرف يصل مبتغاه إذا تملك الشخص شعور بانعدام الدور والمكانة في المجتمع…
وفق بحث[1] أجرته عالمة الأنثربولوجيا الفرنسية، دنيا بوزار، فإن الاستقطاب يمر بأربعة مراحل:
أولا: ترصد التنظيمات المتطرفة أي شخص يبحر في الإنترنت ويبدي اهتماما بالقضايا الإنسانية أو القومية أو الدينية، ثم تجعله محل متابعة دقيقة وتوهمه بأنها تتبنى هذه القضايا ذات البعد الإنساني، كدعم القضية الفلسطينية مثلا.
حينما تتمكن هذه التنظيمات من غربلة مراكز اهتمامهم، تحاول هز مشاعرهم عبر لفت أنظارهم إلى الشركات الكبرى والمجتمعات الاستهلاكية؛ أي “إن هذا العالم مليء بالأكاذيب والمؤامرات”.
الهدف من ذلك، جعل هؤلاء يمرون إلى مرحلة رفض الواقع، كي تدعوهم إلى مواجهة الظلم من خلال إثارة السؤال الروحي الغائب لديهم.
اقرأ أيضا: “إيريك رودولف: إرهابي… باسم الرب”
ثانيا: توظف التنظيمات المتطرفة أشرطة فيديو توضح أن الشر يحيط بكل شيء في العالم، بغية عزل ضحاياها وإعادة صياغة معتقداتهم… البروبغاندا لها دور حاسم هنا ليبحث الأشخاص عن عالم أفضل، ومن هنا يبدأ نبذ هؤلاء لمحيطهم المدرسي والمهني والعائلي.
آلة الاستقطاب تعمل في هذه المرحلة على فسخ الهوية الفردية لصالح هوية جماعية، فنلمس إذ ذاك تغييرا في لباس الفتيات كما يغير الفتيان أسماءهم إلى “أبو طلحة” مثلا… إنها ولادة جديدة، وانغماس في عالم جديد.
ثالثا: تستثمر التنظيمات المتطرفة، بقدرة فائقة، كفاءاتها العالية في مجال الصورة، إذ تعمل بعد ذلك على إغراق الأشخاص المستقطبين بصور وفيديوهات لـ”مجاهدين أنيقين”، يلعبون في الثلج أو يصفون أمامهم رؤوسا مقطوعة وما إلى ذلك.
… وبهذا تكون هذه التنظيمات قد وفرت إجابة عن أسئلة المستقطبين الوجودية، وإجابة سياسية عن العدل، وفضاء استقبال وشعورا بالانتماء؛ ذلك أن الأفراد على نحو عام بحاجة إلى المعنى ورد فعل ضد الظلم المعيش.
يغدو الإرهاب هنا، بالنسبة لهؤلاء، مثل سياحة ومغامرات… هذه الصور تكون “جذابة”، وتقنع الأشخاص بأن الأمر سهل وبأنهم سيصبحون أبطالا في مدة قصيرة.
رابعا: الخطاب المتطرف يصل مبتغاه إذا تملك الشخص شعور بانعدام الدور والمكانة في المجتمع… الخطاب التجنيدي لـ”داعش”، مثلا، وفق دنيا بوزار، يدمج الواقع بالحلم والافتراضي بالواقع؛ ويؤسس عالما جديدا يخرج المستقطبين إلى زمن افتراضي ومقدس متقاسم مع الله، تغيب فيه العلاقة بالمكان والوطنية؛ ويعطيهم الانطباع بأنهم سيلعبون دورا فعليا في التغيير.
هؤلاء يتم إقناعهم بموجة ثالثة من الفيديوهات، بأن مواجهة شاملة مع العالم سـ”تنقذ الإنسانية بفضل الإسلام وستعيد الإنسان نحو الله”. ولا تتوانى التنظيمات هنا عن ضرب أمثلة بالرسول حين واجه القوى الكبرى في زمنه.
اقرأ ايضا: “داعش المسيحية”
هكذا إذن، تنفي التنظيمات المتطرفة الملكات الفكرية للمستقطبين، ثم تأمرهم بأن ينفذوا ما تطلبه منهم… وتكون قبل ذلك قد وفرت إجابة عن أسئلتهم الوجودية، وإجابة سياسية عن العدل، وفضاء استقبال وشعورا بالانتماء؛ ذلك أن الأفراد على نحو عام بحاجة إلى المعنى ورد فعل ضد الظلم المعيش.
بالمقابل، تتواصل جهود الدول، لمكافحة الإرهاب عبر الإنترنت والسيطرة عليه، أمنيا وقانونيا، كما تبذل الشبكات الاجتماعية مزيدا من الجهود لإغلاق كل الحسابات المشتبه فيها، بيد أن الخبراء يؤكدون أن في هذا المسعى عوائق كبيرة نظرا لطبيعة خصائص الوسائل الإلكترونية.