كرة القدم… التفاهة الأكثر جدية وأهمية في العالم 2/1
ذهب الكاتب الفرنسي إلى أن الجلد المدور يعكس تناقض الحياة أيضا، فهي من جهة، تكرس مبادئ الديمقراطية حيث لا يُنتزع الفوز إلا بالاستحقاق والكفاءة (تطورت أيضا اللعبة في الدول الأوربية الديمقراطية)، ومن جهة أخرى، كرة القدم، على امتداد التاريخ، يطبع مبارياتها الأخطاء التحكيمية والحظ والأهداف العشوائية.
الوجود محنة، لذلك استعان الإنسان بالأساطير لفهم هذا العالم، ربما… لهذا السبب وهبتنا الحياة الأسطورة-الحقيقة دييغو مارادونا لنفهم حقيقة كرة القدم. لذلك، لا يوجد حدث جلل كموته في 2020، يدعونا لنستحضر ما كُتب عن الجلد المدور، وكيف استأثرت باهتمام العلوم الإنسانية أيضا.
يقول الكاتب عبد الكريم الجويطي عن كرة القدم: “شبيهةٌ بالأدب، هي استعارة كبرى للحياة، الشيء الوحيد في هذا العالم الذي يُمجّد المجهود، ويمكن أن يتلاعب فيه الضعيف بالقوي”.
يضيف الروائي المغربي أنه عندما كان صغيرا، كان يرى اللاعبين كالآلهة. على الأرجح، لم يكن الكاتب حالما، فلاعبون مثل مارادونا وميسي والضلمي، صنعوا من الكرة دينا جديدا، تعالى على الميتافيزيقا، وقدم للإنسان متعة في حياته… قبل موته.
في الجزء الأول من هذا الملف، نحاول قراءة بعض مضامين كتاب ”كرة القدم، التفاهة الأكثر جدية في العالم” لكريستيان برومبيرجي؛ الباحث الفرنسي في الإثنوغرافيا، الذي تبقى أعماله مرجعية بالنسبة للباحثين في مجال كرة القدم.
في هذا المؤلف، اختزل الأفكار الأساسية لكتابه الأشهر: ”مباراة كرة القدم”، والذي قدم فيه صورة شبه شاملة عن كل ما يرتبط بمباريات الساحرة المستديرة.
التنظير لكرة القدم… البراديغمات الأشهر
لم يبرز الاهتمام بالرياضة عموما، كمادة للبحث العلمي، إلا مع تطور سوسيولوجيا الرياضية، وأعمال المؤرخين الإنجليز، وتزايد اهتمام العلوم الإنسانية بأنشطة وقت الفراغ، مع ازدهار المجتمعات الأوربية، خصوصا مع عالم الانثروبولوجيا الألمانى هويزنجا، إضافة إلى إيريك دانينغ ونوربرت إلياس، اللذان ذهبا في كتابهما “الرياضة والحضارة” إلى أن تطور كرة القدم عكس طفرة حضارية، بفعل تناقص منسوب العنف فيها، وتحول ممارستها لملاعب حديثة.
بعد انتشارها الكاسح، الذي بدأ مع الإنجليز ودول نهر لابلاتا (الأرجنتين والأوروغواي)، ليمتد لكل أصقاع العالم، لم يهادن البحث العلمي هذه الشهرة، حيث تناسلت العديد من البراديغمات التي انتقدت شَغل الجلد المدور لعقول الملايين عبر العالم، ويلخصها كريستيان برومبيرجي في كتابه كالتالي:
1-الكرة أفيون الشعوب:
ينتصر الباحثون المدافعون عن هذا الطرح إلى أن كرة القدم هي وسيلة لإلهاء الأفراد، ومنعهم من التمتع برؤية واسعة حول المشاكل العميقة التي تعصف بالمجتمع.
من بين هؤلاء، المفكر الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي يرى أن ”المجتمع يضمن توازنه بتشجيع الملايين من الناس على الحديث عن الرياضة وحدها دون المواضيع الأخرى”.
يكذّب الكاتب الفرنسي هذا الطرح، حيث يُذكّر أن الشعب المكسيكي، خلال مونديال 1986، خرج للشارع للتعبير عن تذمره من تردي الأوضاع الاجتماعية، كما استغل المواطنون الجزائريون المدرجات للتنديد بما وصفوه استبداد الحكم العسكري.
2- نكوص الجماعة:
كلما تبادر الحديث عن مساوئ كرة القدم، إلا وظهر مفهوم ”تأثير الجماعة” (اشتهر مع نهاية القرن 19 مع غوستاف لوبون، وبعد ذلك مع فرويد وباحثين آخرين في سيكولوجية الجماهير)، والذي يعتبر أن الفرد يصير أقل تعقلا وسط الجماعة، وقد يُقدم على أفعال لا يقدر على الإقدام عليها لوحده.
يدحض الباحث برومبيرجي هذا الطرح، حيث يعتبر أن الملعب، من الأماكن النادرة في المجتمع الحديث، التي تعيد ولادة المجتمع بكل تناقضاته وتفاوتاته، ويبرز هذا من خلال تباين أثمنة كل منطقة من المدرجات. فضلا عن ذلك، ينتقد جمهور المنعرجات (المدرجات وراء المرمى وهي غالبا مُحتكَرة من ”الألتراس”) ما يصفونه ”برودة” باقي الجماهير في تشجيع الفريق.
نستشف من هذا أن جماهير كرة القدم ليست جماعة متجانسة. لذلك، لا يمكن أن نزعم أن جميع الجماهير هي تحت تأثير الحشد، مع كل ما يفرزه ذلك من تولد لمجموعة من الخصائص النفسية.
3- عودة للقبلية:
ذهب بعض الباحثين إلى أن فعل التشجيع يحيي السلوكات الرجعية البربرية، وهذا يتقاطع مع ”سيكولوجية الجماعة”، فكلاهما يرى أن المناصرين الفدائيين (jusqu’au-boutiste)، تنطبق عليها هذه الصفات النفسية التي تحيد عن التقدم الحضاري.
نفى الكاتب الفرنسي هذا الفكرة ”الاختزالية”، حيث أكد أن القبيلة تُعرّف أصلا بالانتماء إلى سلف وأصل واحد، بينما اختيار الانتماء لفصيل مشجع، يخضع لأهواء شخصية، ولا يدوم غالبا طيلة حياة المشجع.
الدليل على زيف هذه الطرح أن الألتراس، في دول كفرنسا وإيطاليا، تنطبق عليها كل مواصفات التسيير العصري والحديث للمقاولة، حيث تتوفر على أمين مال ومسؤول عن الأرشيف يثمن تاريخ المجموعة وموقع وبريد إلكتروني.
4- لعبة الطبقة الكادحة:
الأكيد أن كرة القدم حملت الكثير من الكادحين إلى سماء النجومية وعالم الثراء، لكن كريستيان برومبيرجي يرفض فكرة ربط الجلد المدور بالطبقية، مستشهدا بالأبحاث الميدانية التي أجراها في كل من نابولي وتورينو ومارسيليا، والتي تؤكد أن التركيبة الاجتماعية للمناصرين تتميز بعدم التجانس.
فضلا عن ذلك، يؤكد الكاتب الفرنسي أن اختيار رياضة دون الأخرى، يخضع لرؤية الشخص للحياة، حيث تتميز بعض الرياضات دون الأخرى بالعنف، وأخرى بالمهارة والتركيز، وأخرى بالمهارات الرقمية.
الأكثر من ذلك، يعتبر الباحث في الإثنوغرافيا، أن تعدد وجهات النظر حول تسيير الفرق وطرق اللعب واختيارات المدرب، يعكس انتماء المناصرين لشرائح اجتماعية مختلفة من الناحية السوسيوثقافية، وهذا ما يساهم في شهرة الأندية ونجاح اللعبة.
سبب شهرة اللعبة
ربما… وحدها الساحرة المستديرة من تستحق هذا الغزل: “شكرا لأنك أنتِ هي أنتِ”، فمن رحمها خرج الآلاف من الناس من براثن الفقر، وتحققت أسطورة فوز الضعيف على القوي، وأحيت المشاعر الوطنية في نفس أكثر المتذمرين من بلدهم.
لكن، لا يمكن أن نختزل سبب شهرة اللعبة في هذه النتائج الجلية، بل هناك دوافع كامنة مرتبطة بالهوية، حيث يرى الباحث الفرنسي في الإثنوغرافيا أن :”المدن التي يقتلها الحنين لماض عتيد والتي تبدو منكسة اليوم (مثل مارسيليا وليفربول ونابولي ومانشستر)، هي من تتعلق بحرارة بأنديتها، وكأن إنجازات هذه الفرق، تلملم جراح الحاضر”.
يختزل كرسيتيان برومبيرجي سبب كونية اللعبة وشهرتها في مايلي:
1-البساطة
يمكن ممارسة كرة القدم في كل الأمكنة؛ الأزقة، الساحات، البحر….
توميسلاف إيفيتش، مدرب المنتخب الإيراني لمونديال سنة 1998، اعتز أن كل لاعبيه من ”مدرسة الشارع”، وافتخر بصلابة بنيتهم الجسدية.
تكمن بساطة كرة القدم أيضا في أنها تمارس بوسائل بسيطة وأحيانا بدائية، حيث يكفي التوفر على كرة أو ما يعادلها، ويمكن أن تلعبها حتى حافي القدمين (الممارسة الهاوية طبعا)، على عكس العديد من الرياضات التي تتطلب ملابس ووسائل حماية خاصتين.
2- قوانين ثابثة وسلسة:
يرى الكاتب الفرنسي أن قوانين كرة القدم تتميز بالثبات، مع بعض التعديلات الطفيفة التي تحدثها الفيفا من حين لآخر. بالإضافة إلى ذلك، فهي لا تحدد منطقة محظورة، على عكس رياضة أخرى ككرة اليد وكرة السلة، مما يسمح بنقل الكرة بحرية في كل أجزاء الملعب.
3- تجسيد لدراما الحياة وحلاوتها…
في مباراة كرة القدم فقط، نعيش كل مشاعر الحياة المتباينة: نخاف، نتحمس، نتوتر، ننتشي…
في كتابه ”مباراة كرة القدم”، شبّه برومبيرجي مباراة كرة القدم بالطقس الديني، حيث تُقام في مواعيد محددة مثل الصلاة في الأديان، ويصبح التعلق ببعض اللاعبين الكبار، يحيطهم بهالة من القداسة.
ذهب الكاتب الفرنسي إلى أن الجلد المدور يعكس تناقض الحياة أيضا، فهي من جهة، تكرس مبادئ الديمقراطية حيث لا يُنتزع الفوز إلا بالاستحقاق والكفاءة (تطورت أيضا اللعبة في الدول الأوربية الديمقراطية)، ومن جهة أخرى، كرة القدم، على امتداد التاريخ، يطبع مبارياتها الأخطاء التحكيمية والحظ والأهداف العشوائية.
مصادر:
1-كرة القدم، التفاهة الأكثر جدية في العالم، كريستيان برومبيرجي.
2-مباراة كرة القدم، كريستيان برومبيرجي.
اقرأ أيضا:
- كرة القدم… معشوقة الجماهير وضحية بزوغ مفهوم الكرة الحديثة 2/2
- “مجنون الكرة”… عبد الكريم جويطي يكتب: الظلمي الذي رأى ما لا يراه الآخرون. (الحلقة 1)
- أغاني الألتراس… تسييس الملاعب أم فضاءات جديدة للفعل الاحتجاجي؟ (فيديو) 2/2
- هشام روزاق يكتب: اعترافات رجاوي… تلك الفرحة التي نستحق
- حين كان ماكيافيلي لاعبا ودافنشي مشجعا! كرة القدم… لعبة الرعاع والمجرمين! 1/2
هذه مقالة جيدة
هذه مقالة جيدة
Good article