من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: مشينا فيها…
لا أحد يدري متى حرّم فراس على نفسه الكذب وهو في تلك السن المبكرة، ولا من أين أتى بتلك القابلية المرتفعة لقول الحقيقة، لدرجة أن أمه باتت لا تناديه إلا بـ “لسان الحق” بدل اسمه الحقيقي، إيمانا منها بأنه لا يستحق لقبا غيره، ولا أحد غيره يستحق لقبا كهذا.
إذا كنت تخشى أن تلقى المصير المحزن لصديقنا محجوب، فأرجوك، اشتر جهاز كشف الكذب واختبر صدق أبنائك. إذا تبين لك أن معدل الصدق لديهم ضعيف جدا، فأبشر، مستقبل الأولاد في المضمون وكل شيء يسير في طريقه الصحيح.
من حقك أن تضحك… من حقك أن تأخذ الأمر باستخفاف، فأنت لم تجرب خيبة الأمل ومرارة الضياع التي عاشها آل المحجوب.
بدأت الحكاية حين تنبهت محجوبة، بعد طول تأمل في كلام وتصرفات ابنها الوحيد فِراس، أنها رزقت بطفل غير عادي. ميزته، أو “معجزته” كما تقول أمه، كانت ببساطة أنه لا يكذب أبدا… يبوح لها بذنوبه قبل أن تكتشفها، لا يقسم أنه شرب الدواء ويأخذها طواعية إلى المكان الذي سكبه فيه. يجلب إليها ببراءة كل الأواني التي كسرتها شقاوته وهي غائبة عن البيت، ودائما ينعقد لسانه حين تتوسل إليه أن يقول للجارة الفضولية صاحبة الزيارات المفاجئة إن “ماما خرجت للتسوق”، أو حين يطلب منه أبوه أن يقول لمحصل الكراء إن “بابا مسافر”…
مختصر الكلام، الولد صادق صدوق ولا يخشى في قول الحق لومة أبيه أوأمه.
لا أحد يدري متى حرّم فراس على نفسه الكذب وهو في تلك السن المبكرة، ولا من أين أتى بتلك القابلية المرتفعة لقول الحقيقة، لدرجة أن أمه باتت لا تناديه إلا بـ “لسان الحق” بدل اسمه الحقيقي، إيمانا منها بأنه لا يستحق لقبا غيره، ولا أحد غيره يستحق لقبا كهذا.
علمت محجوبة من تكون الأم المكلومة حين أطلعها زوجها على فحوى بعض العرائض التي حملها بعض من تعاطفوا، في الحلم، مع المرأة في محنتها، “أطلقوا سراح رئيس تحرير جريدة لسان الحق”، “الصحافة ليست جريمة”، “السجن للمفسدين والحرية لفراس”.
أما صديقنا محجوب، والد فراس، فيؤمن بأن زوجته تبالغ في قدرات ابنها كعادة كل الأمهات. لا يفوت الفرصة للاستخفاف بحكاياتها عن الورع المبكر لابنهما، ولا يكف عن إغاظتها بعبارات السخرية وهي تمارس طقوس الرقية الشرعية اليومية لابنها الولي الصالح. يسألها كل مرة وهو يغالب ضحكته الخبيثة: “وقف عليه النبي فالمنام ولّا مازال”، ويتمسح بابنه كلما مر من أمامه وهو يطلب “التّسليم” وسط ضحكات مجلجلة.
لم يظل الأب طويلا على القدر نفسه من الاستخفاف واللامبالاة، وأخذ يتعامل بجدية مع كلام زوجته. بدأ الأمر حين اصطحب ابنه إلى مهرجان خطابي، نظمه سيد من أعيان المدينة بمناسبة انتخابه لمنصب العمدة للمرة الخامسة. عندما تحدى صديقنا محجوب الزحام، وامتثل بين يدي سعادة العمدة ليقسم له بأنه صوت لصالحه هو وجيرانه وعشيرته، وقبل أن ينبس ببنت شفة، هتف “لسان الحق”: “بابا…بابا… هدا هو داك راس لحمار الي قلتِ لعمّو عبد الرزاق بللي عشرين عام وهو تيكدب علينا؟”…
لنحمد الله على أن سمع العمدة ثقيل، وأن صخب الجموع كان عاليا، وأن محجوب وضع بخفه يده على فم ابنه وتمكن برشاقة من أن يشق لنفسه طريقا بين الجموع، وانطلق كالصاروخ للتخلص من القنبلة الموقوتة التي كادت تعجل بخراب بيته.
منذ ذلك اليوم، لم يعد الأب يصطحب ابنه إلى أي مناسبة عامة حتى “يكبر ويدير عقلو”، وظن واهما بأنه حل المشكلة بذلك القرار الجائر التعسفي، فطرقت أم المشاكل داره.
حلم محجوب بامرأة وقد ذوى شبابها وابيض شعرها، تفترش الأرض في حالة يرثى لها بعد أن أعياها الانتظار أمام السجن المركزي. استغل رجال السلطة غفوتها وصادروا عرائض الاستعطاف والاسترحام التي دأبت على رفعها كل يوم، مطالبة بأبسط حقوقها في الاطمئنان على ابنها، بعدما دخل يومه الأربعين مضربا عن الطعام احتجاجا على حبسه احتياطيا وحرمانه من الزيارات
زارته حماته بعد طول غياب -أسبوعين كاملين- وأخذت تذكره كعادتها أنه جد محظوظ ومرضي الوالدين لأنه تزوج أجمل بناتها. لو قالتها مرة أو مرتين لهان الأمر. لكن، عندما تقولها ست مرات متتابعات، عندها، لا تستطيع أن تلوم المحجوب إذا رد بعصبية وحنق: “صدّعتِ لينا تْ…. ألَلَّا بنتك أجمل مرا فالعااااالم. صافي؟ بقيتي لينا على خاطرك؟”.
هكذا، أيتها السيدات والسادة، بلغت الجملة مسامع “لسان الحق” الذي لم يستطع السكوت على الجريمة التي يرتكبها أبوه في حق الحقيقة، فقال بهدوء راهب بوذي: “لَّا بابا… لبنات لعريانات الّي كنت كتشوف البارح فتليفونك زوينات على ماما”…
لو لم تكن الجدة وابنتها حاضرتين وقد تجمدتا من الذهول، لاحتضن الأب ابنه وقد أدرك بأن “لعفريت كبر وبدا يفهم فالزين”. لكن مستقبل العائلة كان على المحك، وكان لا بد له أن يدافع عن نفسه بكل ما أوتي من قدرة على الكذب. تطلب الأمر أكثر من ثلاث ساعات من تقبيل الأيادي، والقسم بالأيمان المغلظة لإقناع محجوبة بأن الأمر يتعلق بمشاهدة عرض فني لسباحات روسيات في الأولمبياد، وأن تقوى وورع ابنهما الولي الصالح هو الذي جعله يصفهن بالعاريات.
بلعتها محجوبة ببرميل من الماء. مر الأمر بسلام، وسجل الزوجان ليلتها أجمل الأهداف في مرمى الزوجية، ثم خلدا إلى النوم هنيئا مريئا، وساد الهدوء والسكينة بيت آل المحجوب.
نعم… هو كذلك كما تفضلت… الهدوء الذي يسبق العاصفة.
منذ ذلك اليوم، لم يعد الأب يصطحب ابنه إلى أي مناسبة عامة حتى “يكبر ويدير عقلو”، وظن واهما بأنه حل المشكلة بذلك القرار الجائر التعسفي
شقّت صرخة محجوب هدأة الليل، واستيقظ مفزوعا يهتف بشكل هستيري: “مشينا فيها… مشينا فيها”. هرعت زوجته لتحضر له كوب ماء وهي تبسمل وتحوقل وتطلب الله السلامة. ناولت زوجها كوب الماء وأخذت تنظر إليه وقد هالها منظره، لاهثا مرعوبا زائغ العينين، وبدأت تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وهي تتف على وجه ثلاثا كما علمتها حماته. شرب كوب الماء وقال بصوت مقطوع الأنفاس: “ولدنا ضاع يا محجوبة… ولدنا ضاع”.
زاد كلامه من قلقها وألحت عليه أن يشاطرها ما رآه. أخذ نفسا عميقا وبدأ يحكي وهو يرتعد من هول ما رآه، وأخذت تستمع إليه وقد صارت هي بدورها ترتعد من هول ما يحكيه.
حلم محجوب بامرأة وقد ذوى شبابها وابيض شعرها، تفترش الأرض في حالة يرثى لها بعد أن أعياها الانتظار أمام السجن المركزي. استغل رجال السلطة غفوتها وصادروا عرائض الاستعطاف والاسترحام التي دأبت على رفعها كل يوم، مطالبة بأبسط حقوقها في الاطمئنان على ابنها، بعدما دخل يومه الأربعين مضربا عن الطعام احتجاجا على حبسه احتياطيا وحرمانه من الزيارات.
علمت محجوبة من تكون الأم المكلومة حين أطلعها زوجها على فحوى بعض العرائض التي حملها بعض من تعاطفوا، في الحلم، مع المرأة في محنتها، “أطلقوا سراح رئيس تحرير جريدة لسان الحق”، “الصحافة ليست جريمة”، “السجن للمفسدين والحرية لفراس”.
فوجئ محجوب بزوجته تقاطعه صارخة في وجهه: “إوا… ملّي كنت أنا فالمحنة انت فين كنت دارع بالسلامة؟ كنت كتشجع السباحات الروسيات!!؟”.
تطلب الأمر أكثر من ثلاث ساعات من تقبيل الأيادي، والقسم بالأيمان المغلظة لإقناع محجوبة بأن الأمر يتعلق بمشاهدة عرض فني لسباحات روسيات في الأولمبياد، وأن تقوى وورع ابنهما الولي الصالح هو الذي جعله يصفهن بالعاريات
لكيلا يهدد المحجوب المناطق القابلة للانفجار في جسده، تجنب الإجابة عن سؤال محجوبة وذكرها بأن الأمر مجرد حلم، ثم دعاها بهدوء إلى التركيز فيما هو أهم وأخطر: ماذا لو قرر “بوراس ديال ولدها” أن يمتهن الصحافة فعلا وتحقق الكابوس؟ صحيح أن مهنة الصحافة ممنوعة في البلاد بقوة القانون، لكن ذلك لم يمنع من ظهور صحفيين سريين افتضح أمرهم وتعرضوا للسجن والتنكيل، وتوبعت أسرهم بتهمة التواطئ والتستر.
لم يفلح كلامه في ململة شعرة واحدة من رأس محجوبة، فالأم تؤمن بأن مستقبل ولدها محسوم وسيكون لا محالة مصدر رزقها ومنبع هنائها، فهو الداعية المنتظر الذي سيتسلم مشعل الدعوة وينسي الناس بصدقه وإخلاصه فضائح الفرارجي عمرو خالد.
نامت محجوبة، وأبى النوم إلا أن يفارق جفون محجوب الذي استحضر فضول ابنه وأسئلته الكثيرة، وقدرته الرهيبة على التقاط كل ما يدور من حوله من تفاصيل دقيقة. كلها إرهاصات تقوي من احتمال امتهان ابنه للصحافة سرا. حينها، انتابه إحساس قوي بأن الحلم إخطار من السماء، ووجب عليه التحرك قبل أن يتحول الكابوس إلى حقيقة.
بدأ الأب يفكر بسرعة مكوكية في السبيل إلى إنقاذ مستقبل العائلة المهدد بالضياع، ولم يجد من حل أمامه سوى أن يقبل ما فرضه القدر عليه، ويبدأ بتدريب ابنه على المنهاج الذي ضمن له السلامة وسار عليه طوال حياته، مستندا إلى نظرية سوسيو-اقتصادية متكاملة مفادها أن “من خاف نجا”، و”من كذب لا يخيب أبدا”، و”من نافق السلطة لن يجوع غدا”. قرر أن يلقن ابنه دروسا في صنعة الكذب وأصول النفاق إلى أن يصبح مواطنا نموذجيا مثله، ويرميه حينها مطمئنا في بحر الحياة.
نام ليلتها وهو يفكر في المهمة الثقيلة التي تنتظره، واستيقظ صباحا على صوت عون السلطة يناديه ليسلمه، يدا بيد، استدعاء يحمل أختاما حكومية.
على أي حال، لم يكذب الذي قال يوما: لا هروب للمحجوب من المكتوب.
لم يفلح كلامه في ململة شعرة واحدة من رأس محجوبة، فالأم تؤمن بأن مستقبل ولدها محسوم وسيكون لا محالة مصدر رزقها ومنبع هنائها، فهو الداعية المنتظر الذي سيتسلم مشعل الدعوة وينسي الناس بصدقه وإخلاصه فضائح الفرارجي عمرو خالد.
جاء صوت البكاء مثيرا للشجن، وتعالى صوت الولولة بشكل لم يعد ممكنا تجاهله. الصوت ينبعث من بيت آل المحجوب… استر يارب… لابد أن المصاب جلل. خرج الجيران يستطلعون الأمر، اقتربوا من باب البيت وسمعوا صوت نحيب مصحوبا بعبارات: “حرام عليك يا ولدي”، “ضيعت مستقبلك وضيعتنا معك”، “مشينا فيها يا محجوبة، مشينا فيها”.
لم يقف الجيران مكتوفي الأيدي وهرعوا يطرقون الباب بقوة.
فتح لهم محجوب الباب وسوائل وغدد شتى تنهمر من وجهه، “مالك السّى محجوب أش واقع؟ ياك لا باس؟”. لم يجب سؤالهم وأشار إلى الورق الذي بين يدي محجوبة، والتي شاركته بدورها البكاء والولولة بعد اطلاعها على موضوع الاستدعاء الذي أرسلته إليهم وزارة الداخلية بالتنسيق مع وزارة التعليم:
“يفصل من الدراسة التلميذ المدعو فراس بن محجوب، ويستدعى أبوه وولي أمره المدعو محجوب بن محجوب، والتحقيق معه للاشتباه في تورطه مع ابنه في إصدار المجلة المدرسية السرية المسماة “لسان الحق”، ونشر أخبار مغرضة ومضللة، الغرض منها تشويه سمعة المدرسة وتعريض مصالحها العليا للمخاطر، تحت ادعاءات حرية التعبير.
وقد تم بموجبه مصادرة العدد الأخير للمجلة المارقة، لاحتوائه على ادعاءات تخص جودة وجبات مطعم المدرسة، والتحريض على مقاطعة الدراسة احتجاجا على عدم محاسبة المدير.
حرر يوم الاثنين فاتح يناير سنة 2035”.
مقالات قد تهمك:
- فريدوم هاوس، مراسلون بلا حدود، منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس واتش، المنتدى المغربي للديمقراطية وحقوق الإنسان… تقارير وطنية ودولية تدين غياب حرية التعبير والرأي في المغرب 2/1
- عبد القادر الشاوي يكتب لمرايانا: السلطة في زمن كوفيد المغربي… الاستثناء في مقابل الحرية والحقوق 3/3
- الحرية الفكرية… بين سلطة الطابو وحتمية التطور! 4/1
- من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: رحيل الحمامة البيضاء…
- من كندا، عبد الرحمان السعودي يكتب: صحوة خطيب جمعة